بتسليم لقضاء الله وقدره، ورضا بحكمه، شيَّعت عائلة الرويشد في العشر الأواخر من رمضان فقيدها الراحل الدكتور عبدالله بن سعد الرويشد، عن عمر ناهز 81 عاماً، الذي وافته المنية بعد معاناة طويلة مع المرض. فالموت هو النهاية المحتومة لكل حي مهما طال به الزمان أو قصر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة الْمَوْتِ}، ولن يبقى إلا الواحد الأحد. وصدق المتنبي حين وصف حقيقة حال الدنيا، وتقلبها بأهلها، وغصصها وأكدارها ومآلها قائلاً: نبكي على الدنيا وما من معشرٍ جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا فالموت آتٍ والنفوسُ نفائس والمستعز بما لديه الأحمق على ذا مضى الناسُ اجتماعٌ وفُرقةٌ وميّتٌ ومولودٌ وقالٍ ووامق ومع إيماننا بأن تكريم الميت ليس باستدامة الحزن واللوعة، أو الركون إلى لذع الذكريات، وإنما بالعرفان والدعاء والبر والإحسان، فإننا في هذا المقال نقدم لمحة عن سيرة الوالد وشمائله - رحمه الله تعالى - من باب العرفان له، وتسليط الضوء على جوانب من شخصيته، قد لا يعرفها عنه البعض، إلى جانب التماس دعوة مخلصة له من القارئ الكريم بظهر الغيب، تنفعه عند الله تعالى، وذلك على النحو الآتي: (1) من أبرز ما اتصف به الوالد رحمه الله أنه كان فيَّاض المشاعر والأحاسيس، لطيف الروح، عذب اللسان، سريع البديهة، يأسر جليسه بمنطقه، وحسن اختياره للحديث الذي يناسبه مهما كان عمره؛ إذ كنت أدهش من قدرته على اجتذاب مسامع واهتمامات جلسائه من كل الأعمار، ونيل إعجابهم، وهو ما يطلق عليه مهارات الذكاء العاطفي والاجتماعي، وذلك من خلال: كلمة طيبة، أو ثناء رقيق، أو مداعبة رشيقة، أو استشهاد رائع، أو قصة معبرة، أو هدية ثمينة.. بل ربما تسمع الحديث عنه مرات عدة ومع ذلك لا يزال بعض المعارف والأصحاب يردد على مسامعي كلما التقيت به ما يحمله من ذكريات جميلة في لقاءاته مع الوالد رحمه الله وما سمعه منه من أحاديث أو عبارات الود والإطراء؛ لذلك حظي الوالد باتساع نطاق علاقاته، وحاز المحبة والقبول، والسؤال الحفي عنه طوال فترة مرضه، والمشاركة في الصلاة عليه، وحضور جنازته، وتقديم العزاء فيه من قِبل عدد كبير من المعارف والأصحاب. وقد ساعد في رسوخ وتأصيل تلك السمات في الوالد - رحمه الله - أنه إضافة لما جُبل عليه من صفات فطرية، فإن تخصصه في مجال اللغة والأدب، وثقافته المبكرة، ساهمتا بشكل أساسي في صقل هذا الجانب من شخصيته.. ومن هنا نستشعر أهمية الكلمة، وحسن انتقائها، وأنها منبع ثرٌّ للمشاعر الفياضة، وأن أناقة اللسان ترجمة وانعكاس لمكنونات النفس، وإذا افتقد الإنسان التعبير المهذب، والقدرة على إبداء المشاعر والأحاسيس، فهو انعكاس لظلمة النفس والروح؛ الأمر الذي يسلب الحياة واحداً من أعظم مسراتها ومباهجها، ويجرد المرء في الوقت ذاته من أظهر الصفات الإنسانية التي تميزه عن البهائم والوحوش!!.. ويحضرني في هذا الصدد موقف طريف معبّر للوالد حينما استضاف يوماً الجد الشيخ سعد بن عبدالعزيز الرويشد رحمهما الله وبالغ في إكرامه، فشكره الجد، وأشاد بحفاوته الزائدة، فبادره الوالد مجيباً بقول الشاعر: أهدي لمجلسك الشريف وإنما أهدي له ما حزت من نعمائه كالبحر يمطره السحاب وما لَه فضلٌ عليه لأنه من مائه فسُرَّ الجد من حسن جواب الوالد ومناسبته! (2) نفع الناس والإحسان إليهم: وللوالد رحمه الله مواقف وقصص زاخرة بقضاء حاجاتٍ، وتفريج كرباتٍ، وتجاوزٍ عن المعسرين، ونفع أناسٍ، والشفاعة لهم، نظراً لكثرة علاقاته، خاصة الفقراء والمساكين، يرافق ذلك أنه كان طيب النفس، يجد متعته في خدمة الآخرين (تراه إذا ما جئتَه متهلِّلاً). ولعلها بفضل الله تعالى من عاجل البشرى ما يحظى به الوالد من محبة في قلوب الناس، وذلك حينما رأيت تلك الأعداد الكبيرة من المعزين والمحبين له، خاصة من كانت تربطه بهم علاقات قديمة، ثم انقطعت أثناء مرضه الطويل، فقد رأيتهم وهم يثنون ويدعون له، ويشيدون بما قدمه لهم من شفاعات وإحسان.. كما عُرف عنه تواضعه الجم، ولين جانبه مع القريب والبعيد والشريف والوضيع.. ومما يذكر في هذا الباب ما نُقل عن الشيخ محمد الصالح العثيمين أنه رأى شيخه عبدالرحمن السعدي رحمهما الله بعد موته في المنام على حالٍ حسنة، فسأله: ما أعظم ما نفعك عند الله تعالى؟ قال: نفعُ الخَلْقِ، أو قال: الإحسانُ إلى الناس. (3) الكرم والجود: كان الوالد رحمه الله كريماً معطاءً، يحب الكرم والجود، ويشيد به، ويعده جماعاً للفضائل، ويشنِّف الأسماع بسير وأخبار الكرماء، ولسان حاله يردد قول حافظ إبراهيم: إِني لتطربُني الخِلالُ كريمة طربَ الغريبِ بأوبة وتلاقي ويَهُزُّني ذكْرُ المروءة والندى بين الشمائلِ هزة المشتاقِ وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما قدم عليه وفد بني سلمة قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: «الجد بن قيس، على أنَّا نبخِّلُه». فقال صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوى من البخل؟!». (رواه البخاري في الأدب المفرد). ولذلك كان الوالد دائماً يذم الشح والبخل، وينفر منهما، ويعدهما من النقائص والشيم الرذيلة التي تزري بالمرء وتحط من قدره كما قال المتنبي: وَآنَفُ مِنْ أَخِي لأَبِي وَأُمِّي إذا مَا لَمْ أَجِده مِنَ الكِرامِ (4) قوة صبره وتجمُّله: طوال عمر الوالد، وسواء في صحته ومرضه، كان نادر الشكوى، يطوي ما يعانيه ولا يظهره، متجملاً، يقسو على نفسه، ولا يبدي ضيقًا ولا تبرُّمًا.. ومن فضل الله على المسلم أن قدَّر عليه المصائب والابتلاءات مبشرات له، فهي: إما مكفرات للذنوب والخطايا، أو أجر وثواب ورفعة عند الله، حسب ما يقذفه تعالى في قلب المسلم من الصبر والرضا والاحتساب. في الحديث الصحيح: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» (رواه البخاري ومسلم). وفي حديث آخر ما يدل على أن المصائب تكون لرفعة الدرجات أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «من أخذت حبيبتيه (أي عينيه) فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح). ويدل حديث المرأة التي كانت تُصرع، وخيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن يدعو لها بالشفاء وأن تصبر ولها الجنة، فاختارت الثانية. كما أشار ابن حجر رحمه الله إلى أن الأخذ بالعزيمة والشدة أفضل من الأخذ بالرخصة إذا وجد الإنسان في نفسه قدرة على تحملها، وهو معنى دقيق غزير، فيه عزاء وسلوى لأصحاب الابتلاءات بحمد الله تعالى. ومما عُرف عنه إضافة لما سبق حبه للعلم والأدب، وإجلاله للعلماء؛ إذ تربطه بهم علاقات وثيقة، وله مؤلفات دينية وتاريخية وأدبية عدة، من أبرزها: كتاب الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في التاريخ، وكتاب قادة الفكر الإسلامي، وغيرهما.. كما كانت له مشاركات وافرة صحفية وتلفزيونية. ومن مختارات الوالد من القصائد التي كان ينشدها ويشجي بها سامعيه قصيدة غير متداولة، فيها عظة بليغة وعبرة، تصور أحوال الدنيا ومعاناة البشر فيها، للإمام الحافظ أبو يوسف بن عبد البر المتوفى عام 463ه، يقول فيها: منْ ذَا الذِي قَدْ نالَ رَاحة فِكره فِي عُمره مِنْ عُسْره أو يُسْرهِ؟ يلقَى الغَنِي لحفظه ما قد حَوى أضْعافَ ما يَلقى الفقيرُ لفقرهِ وَنبي صدقٍ لا يَزالُ مُكذََّبًا يُرمَى بباطلِ قولِهم وبِسحرهِ وأخو العبادة دهرُه مُتنغصٌ يَبغي التخلصَ من مخاوفِ قبرهِ وأخو التِّجارة حائرٌ مُتفكرٌ مما يُلاقِي من خسارة سعرهِ وأبو العيالِ أبُو الهمومِ، وحَسرة ال رجل العقيمِ كمينة في صدرهِ وكل قرين مضمر لقرينه حسداً وحقداً في غناه وفقرهِ والوحشُ يأتيه الردى فِي بَره والحوتُ يلقَى حَتفه في بَحرهِ ولقدْ حسدتُ الطيرَ في أَوكارها فَوجدتُ منها ما يُصادُ بوكرهِ تالله لو عاشَ الفتى في أهله ألفاً من الأعوامِ مالكَ أمرهِ متلذذاً معهمْ بكل لذيذة متنعماً بالعيشِ مدة عُمرهِ ما كان ذلك كلُّه مما يفي بنزولِ أَوَّلِ ليلة في قبرهِ كَيْفَ التخلصُ يا أخِي مِما تَرى؟ صبراً على حُلو القضاءِ ومرهِ! وختاماً، اللهم إنا نسألك، وأنت الكبير العزيز في عليائك، الكريم الجواد لمن سألك، السميع المجيب لمن دعاك، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أن تتغمد فقيدنا الراحل بواسع رحمتك ومغفرتك، وتكفّر عنه، وتخلف عليه ما أصابه، وأن تجعل مستقره في دار كرامتك، وتجمعنا به يا حي يا قيوم.