(الحرية) من أقدم المصطلحات وأكثرها تعقيداً, فقد عبر عنها في الكتابات المسمارية والسومرية, وقد وجد رسومات في عصر الفراعنة تشير إلى هذا المفهوم, وقد تناولها العلماء بالتعريف والتحليل والغربلة, فقعدت لدى كل أمة من الأمم بمعنى وبدلالات متنوعة, وتزداد أهمية هذا المصطلح إذا اقترن بمواضيع أخرى حساسة مثل الأديان, لذا فإن البحث في هذا الموضوع يتطلب قدرات خاصة وإلماماً شاملاً بكافة التفاصيل المتعلقة به، ولا يمكن أن يتصدى لهذا البحث إلا العلماء الراسخون. (الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها) عنوان كتاب من تأليف معالي الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل, مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, ورئيس المجلس التنفيذي لاتحاد جامعات العالم الإسلامي, وأصل هذا الكتاب بحث شارك به د.أبا الخيل في المجمع الفقهي الدولي في دورته التاسعة عشرة الذي يضم نخبة من علماء العالم الإسلامي وفقهائه ومفكريه, وقد اختار د.سليمان أن تكون مشاركته عن هذا الموضوع المهم؛ لارتباطه بجوانب عقدية وفقهية وأصولية, ويعالج قضايا ساخنة على الإطار المحلي والإقليمي والدولي, وله ارتباط وثيق بصورة العلاقات الدولية والأسس التي تبنى عليها. وحساسية الموضوع وإشكاليته تكمن في التعارض الذي يكمن في أذهان البعض حول ما منحه الإسلام من حرية المعتقد لغير المسلمين, وعدم إجبار الناس في الدخول في هذا الدين وبين ما شرعه من حدود وأحكام حفاظاً على كليات الدين, ومنها حد الردة, ومعرفة مدى الاشتراك في قيمة الحرية كأسس تبنى عليه العلاقات الدولية باعتبار أن هذا المبدأ ورد ضمن القوانين الدولية وضوابط هذه الحرية, كما أن مشكلة البحث تمتد لتشمل معالجة التعددية الدينية والمذهبية وموقف الشرع منها. وقد جاء هذا الكتاب في مقدمة, وتمهيد تطرق فيه المؤلف إلى التعريف بمصطلحات البحث, وفيه ثلاثة مسائل, المسألة الأولى: في التعريف بالحق لغة واصطلاحاً, وبيان مصدر الحق: ويصدر المؤلف حديثه في هذا الموضوع بقوله: (الحديث عن الحرية الدينية باعتبارها حقاً لابد له من مقدمات، وممهدات تظهر مدلولات هذه المصطلحات، لحصر جوانب الموضوع، وبالنظر إلى أن الحديث عن الحرية الدينية بهذا التحديد كمصطلح إنما برز من خلال منظمات حقوق الإنسان، فقد اعتمد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموجب قرار الجمعية العامة للأم المتحدة برقم 217 أ (د -3) في 10-12-1948م، ونصت المادة الثامنة عشرة منه على هذا, فقد ورد فيها: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة». وقد تحفظت المملكة العربية السعودية في تصويتها لصالح الإعلان على هذه المادة، وكذلك المادة السادسة عشرة، وذلك بسبب اصطدامها بأحكام الشريعة. ولذا لابد من بيان مفهوم الحق ومصدره. فالحق لغة: له معان متعددة، ترجع في مجملها إلى الثبوت والوجوب، فيطلق الحق على الموجود الثابت، وعلى الواجب وعلى خلاف الباطل، ومن إطلاقاته: الحظ والنصيب والصواب وغيرها, وفي القاموس المحيط: «الحق من أسماء الله تعالى, أو من صفاته, والقرآن, وضد الباطل, والأمر المقضي, والعدل والإسلام, والمال والملك, والموجود الثابت, والصدق, والموت, والحزم, وواحد الحقوق». بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى المسألة الثانية وهي: المراد بحقوق الإنسان, تليها المسألة الثالثة: في بيان مفهوم الحرية. بعد ذلك ينتقل د.أبا الخيل إلى لب البحث والقضايا الأساسية فيه؛ حيث المبحث الأول: الأسس التي تبنى عليها حدود الحرية, ويفصل المؤلف الحديث في هذا المبحث ومسائله بقوله: المسألة الأولى: عالمية الفطرة: إيراد هذا الأصل لبيان أن التدين ضرورة للبشر، ولا يوجد أحد لا يشعر بها، وإذا كان التدين ضرورة فطرية غريزية جبلية فإن هذا الجانب يمكن أن يعد من الأطر العامة للحرية، ففرض حريات تقوم على التحرر من الدين والخلق فوضى وليست حرية، وقد ذكر الله في كتابه أن الفطرة التي فطر البشر عليها هي الحنيفية السمحة القائمة على إخلاص العبودية لله، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. فالعارض عرض لفطرته أفسدها)، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة). المسألة الثانية: عالمية الإسلام.. وعموم الرسالة المحمدية: من الثوابت التي دلت عليها النصوص القواطع ما يتعلق بعموم الرسالة، وهذا ما جاء في كتاب الله، حيث ذكر الله سبحانه أن كل رسول أرسله الله إلى قومه وحدهم، ما عدا محمد صلى الله عليه وسلم، فنوح عليه السلام أُرسل إلى قومه فقط، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، وإبراهيم عليه السلام، أُرسل إلى قومه فقط، كما قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}، ولوط عليه السلام أُرسل إلى قومه فقط، كما قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}، وهود عليه السلام أُرسل إلى قومه فقط كما قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} إلى قوله تعالى: {أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}، وصالح عليه السلام أُرسل إلى قومه ثمود، كما قال الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، وشعيب عليه السلام أُرسل إلى أهل مدين، قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، وعيسى عليه السلام أُرسل إلى بني إسرائيل، كما قال الله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ}، أما محمد صلى الله عليه وسلم فأُرسل إلى جميع الناس كما يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، قال ابن كثير مبعوث للناس كافة)، ثم قال (والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم). وأما الأحاديث النبوية الشريفة، فكما قال ابن كثير -رحمه الله- أكثر من أن تحصر، وأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، فقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الأنبياء بست)، منها قوله: (وأرسلت إلى الخلق كافة). المسألة الثالثة: استيعاب هذا الدين للشرائع كلها، وتضمنه لما فيها. إن الرسالات التي سبقت الإسلام كانت غير شاملة بالنسبة للدعوة نفسها، فلم تكن الدعوة كاملة التفاصيل، وإنما حوت ما يستطيع العقل آنذاك هضمه وفهمه، وكانت كذلك غير شاملة للبشرية، فقد كانت الرسالة محددة لقوم معينين، وجاءت رسالة الإسلام، وهي خاتمة الرسالات، فيها من العناصر ما يجعلها تناسب كل زمان ومكان، ومن أهم هذه العناصر: شمولها لأحكام واسعة في المجالات المختلفة، كنظام الميراث والزواج والطلاق والسياسة والاقتصاد وغيرها، فما من كمال وحسن وصلاح إلا وتضمنته الشريعة الإسلامية بصورة أوفى وأدعى ليتم بذلك سر الاصطفاء والاختيار، وما من قبح ونقص إلا والشريعة الإسلامية منزهة عنه، ولذا أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، وقال في شأن القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، ثم كان من عناصر هذه الرسالة أيضاً أن تعترف بالرسالات السماوية السابقة، وأوجبت الإيمان بها على وجه الإجمال، وبما جاء به هؤلاء الرسل من كتب، ونجد ذلك جلياً في أمر الله تعالى للمسلمين في قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، لكن هذا الاعتراف لا يعني أنها باقية لم تنسخ، لأن الله بين في آيات أخرى أن الإسلام مهيمن على الديانات السابقة، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. المسألة الرابعة: الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلام والدعوة. هذه المسألة - في نظري- من أبرز المسائل التي لا بد من إبداء الرأي فيها، لأن الاتهام الذي أشرت إليه في صدر البحث نابع من رؤية مبنية على اجتهاد، كانت نتيجته تغليب النظرة العدائية، وجعل العلاقة المبنية على الحرب والسيف هي الأصل، وكما هي العادة في ردود الأفعال، قابل هذا الاجتهاد اجتهاد آخر ربما لا تسعف فيه الأدلة، أدى إلى إلغاء كثير من النصوص، والقول بنسخها أو تأويلها، والتوسط هو الذي أشرت إليه في عنونة المسألة، ويظهر أثر هذه المسألة على موضوع الحرية الدينية عندما ندرك أن من اعتبر الحرب هي الأساس، فإن هذا التحديد يكون سبباً للنفرة من هذا الدين، ووصفه بالقسوة وإغراء الآخرين بعداوة الإسلام، ومن ثم لا يتصور كثير منهم حرية في ظل هذه الأجواء، إلا أنه من النصف والعدل أن يقال إن القائلين بذلك لا يمنعون بقاء الكافر على دينه إذا رضي بالصغار وبذل الجزية، ولا يمنعون من المعاهدات إذا أصبحت صورة ضرورة، أما القائلون بالطرف الآخر بأن إقامة الحرب طارئة على خلاف الأصل، ومن ثم قالوا إنه ليس هناك جهاد طلب قادهم هذا إلى تخبط في بعض المواقف، وتمييع لبعض الثوابت، ولعلي هنا أورد الخلاف بصورة موجزة لأصل إلى النتيجة التي ذكرتها. القول الأول: من يرى أن الأصل في العلاقة السلم، والحرب والجهاد أمر عارض، وطارئ على هذا الأصل، يصار إليه حينما يحصل موجبه من الاعتداء والصد عن سبيل الله، واستهداف أوطان المسلمين، وهذا القول قول كثير من المعاصرين، بل يتفق أكثر من كتب في العلاقات الدولية على هذا القول. وممن يرى هذا القول سفيان الثوري وابن شبرمة فيقولان: (القتال مع المشركين ليس بفرض إلا أن تكون البداية منهم فحينئذ يجب قتالهم دفعاً لظاهر قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثير نورد منها: 1 - الآيات التي تذكر اعتداء الكفار وظلمهم، وأنه الدافع لقتالهم، ومنها قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}، وقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، لأنه عز وجل أباح الكف عن عمن كف فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صغاراً. فمعنى قوله: {وَلاَ تَعْتَدُواْ}: لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس، وختم الآية ب: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} الذين يجاوزون حدوده، فدل على أن الأصل في العلاقة مع الكفار السلم إلا إن ابتدؤونا بالقتال، والبداءة، إما بصورة الإعداد والتجهيز، أو بصورة التهديد، أو بغير ذلك من الصور. 2 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}، فدعا الله سبحانه وتعالى إلى الدخول في السلم كافة بجميع أنواعه، ومن ذلك ما يتعلق بالمعاهدات مع غير المسلمين، ومن حصرها بالإسلام فليس في الآية ما يدل على ذلك. 3 - قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}، فأمر الله المسلمين بالامتناع عن قتال من لم يقاتلهم، ومن يلقي السلام إليهم من غيرهم. 4 - وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. فدلت الآية على عدم جواز مقاتلة من يلقي السلام بدعوى أنه غير مؤمن. 5- وقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} (61) سورة الأنفال. أي: وإن مالوا إلى مسالمتك وترك الحرب، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح فمل إليها، وأبذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوك. وفيه توجيه عام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بأنه إن مال الأعداء عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافاً للمعهود منهم في حال قوتهم، فما على الرسول والمسلمين إلا الجنوح كذلك للسلم، لأن المسلمين أولى به من غيرهم. 6- وعلى هذا النحو كانت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته في الحروب والمسالمات تشهد على ذلك، فظل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الله في مكة ثلاث عشرة سنة حتى يتقرر هذا الأصل في السلام، واستأنف الدعوة السلمية في المدينة، وكانت غزواته حينما يقابله الكفار ويبتدئونه العداء، أو بناء على الأذية السابقة منهم، وأما مع الكف وعدم المقاتلة فلم يثبت قتاله، وسيرته صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة شاهد على ذلك. القول الثاني: أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار الحرب، وأن الجهاد فرض قائم على الأمة الإسلامية، لا يحل لها تركه والتهاون به والتكاسل عنه، حتى وإن لم يبدؤونا الكفار بالقتال، وقد ذهب إلى القول جماعة من العلماء المتقدمين، ويمكن أن يقال إنه فهم يستنبط مما ذكروه في كتب المغازي والسير والجهاد، وفي التسليم بهذا الفهم مناقشة. واستدل أصحاب هذا القول بعدة نصوص منها: 1- قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (36) سورة التوبة، ففي هذه الآية أمر بقتال الذين يقاتلون، فعلم من ذلك أن شرط القتال كون المقاتَلِ مقاتلِاً، أي: ممن سمح بقتالهم، فهو شرط للقتال وليس علة له. 2- قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (5) سورة التوبة، هذه الآية عامة في كل مشرك، وخص منها المرأة والراهب وصاحب العهد والذمة وغيرهم، فصفة الكفر والشرك هي العلة في القتال ودائمة الوجود حتى قيام الساعة، فيكون دليلاً على أن الأصل في العلاقة الحرب والقتال. 3- قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (35) سورة محمد، فالله سبحانه نهى المؤمنين عن الوهن وطلب المسالمة، وهذا يبين أن السلم ليس بأصل لتلك العلاقة. 4- قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فيدل الحديث على مبادرة الكافر بالقتال، وذلك يقتضي القتال إلى هذه الغاية، وأن الأصل في العلاقة الحرب. 5 - قوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، فدل الحديث على أن لا سلم ولا سلام حتى يعم هذا الدين أرجاء الأرض، وحتى ترتفع راية لا إله إلا الله. 6- ما ذكره الفقهاء في كتبهم حينما يتحدثون عن حكم الجهاد، ويقولون: إن الجهاد فرض على الأمة الإسلامية، والأصل فيه أنه فرض كفاية، إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، ويكون فرض عين في حالات معينة، وهذا يعني أن مسالمة الأعداء وترك الجهاد يؤدي إلى أن تأثم الأمة كلها، ولو أن الأصل في العلاقة السلم لما فرض الجهاد، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن الجهاد قائم ماضٍ إلى قيام الساعة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل) فكيف يتفق أن الجهاد ماض مع أن الأصل في العلاقة السلم. مناقشة الأدلة: 1- {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (36) سورة التوبة، فمعناها ليس على ما يظهر من الجزء الأول، وإنما يتبين بالجزء الثاني كما قال بعض المفسرين، وأنه بما أن المشركين يقاتلونكم أيها المؤمنون وهم مجتمعون وكلمتهم واحدة فكذلك كونوا، فهذا التفسير يبين لنا أنه لا دلالة على أن الحرب هو الأصل لأنها بينت كيفية الحرب مع الكفار، وكيف يكون المسلمون في حربهم لعدوهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى: بما أنهم يستحلون قتالكم فقاتلوهم كلهم بلا استثناء، فالمراد المبادرة في قتالهم في حال قيام الجهاد بدوافعه، ولكنه قد خص بنصوص أخرى، منها حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) وغيره. 3- وأما قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (5) سورة التوبة، فإن هذه الآيات من آخر ما نزل في الجهاد، وقد سبقها قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} (4) سورة التوبة. فأمر بإتمام العهود إلى مدتها، وقدمها على آية الأمر بالقتال إشارة إلى أن ذلك هو الأصل، وبعدها قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (7) سورة التوبة، فهذا دليل على اعتبار العهود وأنها الأصل في العلاقات، وفهم النصوص يتم على ضوء ربطها وجمعها، وفهم دلالتها، وقد خص من الآية بالإجماع من لا يجوز استهدافهم في الحرب بنصوص أخرى، وظاهر الآية لا يفهم منه ذلك. ويناقش الاستدلال بهذه الآية أيضاً بأن المقصود بالمشركين هم الذين نقضوا العهد وظاهروا على المسلمين على ضوء ما سبق. ونوقش الاستدلال بها أيضاً: أنه مخصوص بنصوص أخرى كمثل قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} (61) سورة الأنفال، فإنه لا تعارض بين هذه الآية وآية التوبة وما جاء في معناها، لأن آية التوبة فيها الأمر بقتال الكفار إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه آية الأنفال، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم. 3- وأما قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (35) سورة محمد، فالمعنى لا تبدؤوا الكفار بالقتال، وقد فسرها الإمام الطبري رحمه الله بقوله: (لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها، ودعتها إلى الموادعة (السلم)، وأنتم أولى بالله منهم والله معكم)، وذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الآية دالة على جواز وضع المهادنات إذا رأى الإمام ذلك لمصلحة معتبرة فقال: ولهذا قال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة، فله أن يفعل ذلك،كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك). فالآية لا تعني عدم المسالمة مطلقاً إنما الابتداء بها. 4 - وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فالحديث ليس على عمومه، لوجود أدلة أخرى، ونوقش كذلك بأن المراد بالناس في هذا الحديث هم: مشركو العرب فقط، لأن أهل الكتاب لهم أن يعطوا الجزية إذا لم يدخلوا في الإسلام، فكلمة (الناس) أفادت العموم، وخصصت بآية الجزية، فهذا من العام الذي أريد به الخاص. 5 - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، مخصوص بآية الجزية، وحديث بريدة الذي يفيد التخيير للكافر، إما الإسلام، أو الجزية أو القتال. 6 - وأما الاستدلال بما قرره الفقهاء من أن حكم الجهاد على سبيل فرض الكفاية ويتعين في حالات، فالجواب عنه أن هذا بيان لحكمه حال وجود بواعثه وأسبابه وتوفر شروطه وانتفاء موانعه، لأن من انضباط الحكم الشرعي أن يكون مربوطاً بما ذكر، فلا يعني الإطلاق، ومن ضوابط الجهاد أن يستهدف به من يقاتل المسلمين ويقف في طريق الدعوة، فلا يدل إيراد الحكم على أن الأصل الجهاد والحرب. الترجيح: بتأمل القولين وبما ورد من أدلة ومناقشات، أجد أنه بالنسبة للقائلين بأن الحرب هو الأصل، أدلتهم نوقشت بمناقشات تضعف الاستدلال بها، وفي القول بذلك من المفاسد التي أشرت إليها ما يكفي في إضعافه، وبالنسبة للقائلين بأن السلم هو الأصل فأدلتهم قوية، وأقوى أدلتهم قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (90) سورة النساء، وقوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} (91) سورة النساء. والذي يبدو أن المسألة تحتاج إلى تفصيل: فالقول بإطلاق أن الأصل أصل السلم، وتحميل هذا القول إلغاء كثير من النصوص، وما دلت عليه من جهاد الطلب، فيه ما فيه، ولكن يقال نعم، الأصل السلم الذي لا يعني ضعفاً ولا تكاسلاً في نشر هذا الدين، وإنما صبغة سلمية تنشر رحمة هذا الدين، وتوصل رسالته إلى الآفاق، ومن هنا يظهر أثر هذا الفهم المستند إلى النصوص الآنفة الذكر على صورة الحرية الظاهرة التي هي ميزة لهذا الدين في التعامل مع غير المسلمين. المسألة الخامسة: منزلة الحواركأسلوب للإقناع، ووعاء للحرية. إذا ظهر أن الأصل في العلاقة الصبغة السلمية، والدعوة، فإن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينت أن أمثل أسلوب للدعوة إلى الله، وإظهار محاسن الدين الإسلامي ومزاياه، ونشر هدايته ورحمته أن يكون ذلك بالأسلوب الحسن والحكمة، وهذا نابع من عالمية الإسلام، وشعور المسلمين بهذا الواجب الذي هو رسالة الأنبياء والمرسلين، وسوف أحصر الحديث في هذه الجزئية على دعوة غير المسلمين، لارتباط هذا الجانب بموضوع البحث وهو الحرية. ويواصل المؤلف حديثه ليقول: والمجادلة المأمور بها هي الحوار، فالحكمة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} هي: العلم النافع والعمل الصالح، ومراعاة حال المخاطب حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده، وهذه المرتبة الأولى: (فإن انقاد المدعو بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أوكان داعية إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً) وهذا هو مدلول الحوار، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} سورة المجادلة. وهذا الأسلوب هو الذي أمرنا الله به كأبرز طريق للدعوة ولاسيما مع أهل الكتاب الذين لهم حجج، وعندهم علم، هو أسلوب القرآن، (فالقرآن مملوء بالاحتجاج، وفيه جميع أنواع الأدلة والأقيسة الصحيحة، وأمر الله تعالى فيه بإقامة الحجة والمجادلة، فقال: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (46) سورة العنكبوت، وهذه مناظرات القرآن مع الكفار موجودة فيه، ومناظرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لخصومهم، وإقامة الحجج عليهم لا ينكر ذلك إلا جاهل مفرط في الجهل)، ومفهوم الحوار وأصوله وآدابه وما يتعلق به ليس هذا مجال بسطه والخوض فيه، وإنما الهدف التدليل على أن استعمال هذا الطريق وتغليبه على القتال، والأمر به في نصوص كثيرة دليل قاطع، وصورة أكيدة على ضمان الحرية، ودورها في العلاقة مع غير المسلمين في التعامل والدعوة، لأن الغاية من الحوار إقامة الحجة على المحاور، وكشف الشبه، وتبيين الهدى له، حتى يصير إلى خيار اعتناق الدين بقناعة تامة، ورضا ويقين، وهذا ظاهر ولله الحمد. بعد ذلك ينتقل د.سليمان إلى المبحث الثاني: ليتحدث عن تأصيل الحرية الدينية من وجهة نظر شرعية, وذلك عبر عدة مسائل وهي : المسألة الأولى: ثبوت هذه الحرية من خلال نصوص الكتاب والسنة القولية والعملية. بعد ذلك ينتقل للمسألة الثانية وهي: تحديد الحرية التي منحها الشرع «حرية التفكير أم الاعتقاد». ليناقش في المسألة الثالثة فهم الحرية في ضوء ما يظن أنه معارض. لينتقل إلى المبحث الثالث والأخير: ليتناول ضوابط الحرية الدينية وآثارها, وفيه مسألتان, الأولى ضوابط الحرية الدينية, والثانية: آثار فهم الحرية الدينية بالفهم الوسطي, الذي ينبع من استقصاء وتتبع. هذا الإصدار المهم ترجم إلى اللغة الإنجليزية, وهو بحث حساس ودقيق يدحض الافتراءات التي قد يتشدق بها من يعادي الإسلام ومبادئه, وقد حظي بالعديد من الإشادات من العلماء والمفكرين داخل المملكة وخارجها.