هو القريب من كل جانب، لأنه خالي وعم زوجتي، وأخي من الرضاع، وابن خال أبي ومن أبناء العم، وإنه - مع ما تقدم - نعم الصاحب، رحب الصدر وسمح القلب/ ناصر بن عبد العزيز بن عبد المحسن المطلق، رحمه الله رحمة واسعة وجعله في عليين.. ..لأقول سبحان الله!، ليس بالسهولة (مهما تواضعت لدى ذهنك الأدوات).. بلع الوداع الفراق الغياب.. هكذا! بخاصة وأنت ذا نفس عدّتها الإحساس: إذا احتربت يوماً وفاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها و(القريب) بالذات.. لأن هذا القريب يمثل تواجده بحياتك، جزء منك أنت.. أقرّبها أكثر: هو أحد حيطان بناء (دنياك)، الخاصة، فما أن تسمع بخبر سيء قبله.. إلا يمر ولحظتها شريطه (كله) في ذهنك سراعاً، وكأنك - عندها - تود التأكد قبل الشريط - العمر - الذي مضى..، بالذات ما تستجلب من محاسن مسيرته أمام عينك، ثم.. ما يثقل من ذاك بالفعل على القلب، حين تقع على مواضع طيبته وحبابته، وأثبت لك أنه يمر الشريط على تلك الذكريات الجميلة (له) ببطء لما يسري عن الذات بعض الحاضر.. فعجلة الشريط خلاف تلك المواقف الصعبة والثقيلة التي كانت منه.. مما يدل على أن المرء عموماً لا يستبقي إلا الأشياء الجميلة، بالذات لدى الأنفس الجميلة من الداخل، وهي التي تقصّى مكامنها حديث: (إذكروا محاسن موتاكم)، كأعظم رافد. والأقارب بخاصة هم أكثر المعنيين بهذا، فهم الأحباب، وقبل هم أهل الود بحق، وأولى الناس - بعد الوالدين - بالصحبة، لأن مجمل النصوص الشرعية دلت على ذلك، قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (6) سورة الأحزاب. فالقربى، من ذي الحقوق التي عليك قبلهم، هم درجات: 1- الوالدان. 2- فالأقربون. 3- الموالي. 4- فأولى الأرحام. 5- فالجيران. بخاصة من جميع: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (36) سورة النساء. 6- فيما بقية القوم ممن حولك هم الرهط - العشيرة - والعزوة. 7- فالبقية من عامة المسلمين. فلا غرو أن يكون الفراق عندئذ ألم يخزّك، وبقدر ما هو إنباءٌ عن تهاوي أحد جهات حياتك التي كان تواجده ك(تكاملها) تملؤك دفئاً وحناناً، ومن جهة متممة أنها بالمقدار ذاته: تعين على نوائب.. عسر الدهر، ونكد الأيام. بل.. فوق ذلك ما يكتنفك أُنساً وأمناً داخلياً واجتماعياً ولو.. من (صدى) تواجدها - إذ الاحتكاك بعصرنا قلّ جداً - فإذا ما تجمعن (كل) تلكم وجدت عنوانها.. (أنت). في مقابل.. فقدك لأحدهم يذهب جزء من كتاب حياتك.. التي لا تتجزأ.. فهي الحياة كأي كتاب، إن يتمزق.. فتنسلخ منه أوراق (قد تكون) مهمة.. بمسيرتك، وقد جاء ما يقرب، وإن كانت موجهة - الآية - للأمة: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (41) سورة الرعد، قيل - من المعاني - ذهاب العلماء. ثم.. لإن كان الغلاف (الأمامي والخلفي) هم والديك.. فإن داخل هذا الغلاف من أوراق.. هم الأقارب والأحباب والأصحاب، فعموم من حولك، و(جنّة بلا ناس لا تداس)، ممن يرفدونك بمدد (استطالت) الأيام معهم.. إلفاً وزخماً، بل جمال وقع.. تعايشه بلا إحساس، إلا في حال الفقد - الوفاة -! وهاك مثال أجلى: الصحة التي تعتادها، لا تعرف (نعيمها) إلا في حال فقدها، بل لو جاشك أي ألم طارئ عرفت قدرها. فبربك كيف تفرّط، أو ينفرط منك وصل حبال القوم.. بلا تأثير، سوى لدى من جفت ينابيع قلوبهم! من أن تمدهم بالمشاعر.. أو لا يثقل عليك تساقط هذه الوريقات؟، أو وبالأصح إحدى هذه الصفحات؟! ثم عوداً على بدء، بسؤال شاهر على وجوه الخاملين: أن.. كيف له (أن يبلغ) لو لم يعش آلام الفقد، كما الأعمى لو لم يكف بصره، من أن يبلغ - قِبلهم - السبق، أمام أولئك.. وهو فوق حاله حالة مُصارع لذلك (النقص)! وكيف - أخرى - وقد عُذِّر من أن يطاله الملام، وقد طارح الفقدُ من صغره. وبالمجمل: فالحياة عبارة أو مقاربة من أن تكون كبناء منزل، وبعد أن تتم بناءه ويضمك إليه.. عندئذ يكون أثر الفقد (لديك).. أنه كلما يقع من ذلك البناء الذي ظللت عليه عاكفاً حتى أتممته - حائط، تفقد شيئاً من ذاك الدفىء الذي هو لك ك(الحصن) بل الحصن من عوائد الدهر، أو نوائبه. لأن بتلك - وقد تقدم - هو بمثابة أمنك النفسي.. الذي لا يمكن تصوره إلا في حال مشابهة لمن جرب الاغتراب (يوماً)، سواء للدراسة أو للعلاج، أي أنه لا يعرف (المدى) من تلكم.. وعن كثب إلا ذاك الصنف، فلا يعرف الشوق إلا من يكابده، نحو ما أطر له أبو العتاهية بقوله: إذا مضى القرن الذي أنت فيه وخُلفت في قرن، فأنت غريب و.. ضربت مثال بالغربة المكانية التي (هي) وقت مستقطع من حاضرك.. ينقلك - به - إلى صورة للقادم (هذا إن هرمت.. يوماً)، فأنت عندئذ وبين القوم.. اغتراب عنك بكل شيء ولربما.. (غريب) الوجه.. واليد واللسان أعود مجلياً عما تقدم.. أنك لا تبلغ (وقع) هذا في واقع ذاك الرعيل، إلا إذا جلست مثلاً مع الصغار من الأقارب، إلا وواجد نوعاً من النفرة، ولا أقول الوحشة أو هي غربة. لأن ذاك الجيل الذي تربيت معه.. من الأقارب.. إلا فهم آت من أنهم (صنوك) سناً! أما هؤلاء فإنك هنا تتخلف إلى رهط لم تشاطرهم الدنيا، أو تؤانسهم يوماً (تولى)، أو يداخلك، فتتداخله لتعرف من خلال تلكم شيئاً من الامتلاءات الذاتية، نحو بما يسمى ذاك العهد، ب(الأمن الاجتماعي). فكذلك الحال مع المنزل.. إذا ما فقدت احدى حجراته، كحالك إذا ما فقدت أحد أقرب الأقربين.. أي يكبر الجرح كلما قرب القريب - الغائب. وكذلك إن كان أحد الأقارب المقربين.. فإنه منك - للتقريب - إحدى الحجرات لذاك المنزل! أعود (مقرراً) بل مثبتاً أن هذه الدوافع تتكاتف أو تتراخى.. على حسب قرب ذاك الفقيد، وأثره.. بحياتنا، فهو من الدار أحد أركانها أو أجزائها وهكذا، وما أجل وقع قول الصمة القُشيري: غنّينا زمانا ب(الحمى) ثم أصبحت عراب الحمى من أهلها قد تخلّت وقلت لأصحابي غداة فراقها وددت البحور العام بالناس طمّت ولكن هي لن تعمّ، لكنها أحياناً بعين الحزين من أنه يرى الناس (أو يكاد).. حزانى مثله! بل يكبر وجه تلك المآسي.. كل ما يكون لذاك الفقد من الأثر الكبير لديك، وداخلك، ولربما تخونك أساليبك أو لنخفف اللفظة ب(لا تسعفك) أدوات ما لديك من الأساليب، إن في التعبير عن مدى أثر ذلك لديك، أو حتى في جمل توازيه.. يوم وداعه، حتى قال أحدهم معتذراً.. وبكيت (كالطفل..)، أنا الذي ما لان في صعب الحوادث مقودي ولو أن تبدي شيئاً مما لديك حوله، وما أبقاه الفقيد لديك له من أثر! وهكذا (مع العمر).. تجدك شيئاً فشيئاً حتى تجد نفسك وحيداً من الخلان، ربما لا تكترث عندها ما يجتالك من حوادث، بل ولا تستكثر في هذه الوضعية زيارة المنون، هذا إن لم تكن استأخرت مقدمها! نحو بوح المعري: يا موت زُرْ، إن الحياة ذميمة وبعد، فهذا الذي تقدم لا أقوله تفلسفاً، ولا لحذلقة بالجمل.. بقدر ما هو (نفث) عن أنفاس حرى.. تتقطع من الفراق، ثم ما يزيد بها أنه صادرة عن أبعاد البين، وآثاره الداخلية المعلّمة حقيقة عند الإنسان، وما يتكادءه عندئذ من درجة أن تكون تلكم الأنفاث من كل ربيع تنحت. لأن الوجنات (رأس الخدود) هنّ مسرى ماء العيون (الدموع)! كما وهذا إن لم تجدوا بالمقل من مسعف، موفور الحزن.. وأجد لما يجد! ولا غرو أن أسائل عبيري.. هذا بهذا: هل أنا (أرثي) خالي، في تأبين أم أني أتفلسف، أم الاثنين معاً! حقيقة لا أدري، ولربما ذهول (هول) فاجعة الفراق، وآلامه هي من نحت بي منحاي هذا، وألم من وقع.. للفقد مجلياً، لكن.. لا تثريب، كذا أظن.. فإن الصدمات قد تفيق المرء لأشياء، وقد تذهب به مذاهب، فلعل هذا التسطير هو من الوجه الأول.. لهذا، لا للهذيان. أخيراً: قد يظن زاعم أنك تقدر على بسط نوع من الخطاب للخطب.. أو ربما لما حزته من أدوات الكلام.. تقول حول أبعاد ذلك! وما الجهتين قصدت والله، لكنها تشريح لأسباب.. بل للدوافع وراء (حزننا) على الفقد، وكأن الأصل جرّاءه: هو.. بكاء على النفس! ..وبربك تمعن بالآية {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} (51) سورة التوبة. فلاحظ كيف جمع المصيبة وضمير الملكية (لنا).. أليس مرد (نفع) ذاك المصاب هو لنا، في أُحرانا (على الأقل).. إن غابت حكمته (عنّا)، أي في دنيانا! وإلا لو دققت لوجدت المصاب هو نذر مبكر. اصحوا..، ومن ثم اصح واستدرك.. واعمل ولا تركن لما أترفت فيه، أو تيسر منه عيشك، وسهل به معاشك، بل استلحق من عمرك ما بقي، بخاصة إن كان الفقيد بمثل سنك، قالت العرب (انجو سعداً، فقد هلك سعيد)، كما والسعيد بحق: من وُعظ بغيره. أو تأخذك سكرة الدنيا فلا تصحو إلا وأنت في القبر.. ولا ساعة ندم لك، أو حسرة، كما.. ولا (في فرصة تالية) آتية البتة. فهلا أدركت.. وتداركت عمرك، لأن تصلح، وتفلح.. وعند ربك تنج؟! أجل وقد قال المربون: لا تقل إن كان في العمر بقية، فأنت من سماع هذه الجملة - وما بعدها بهنيّة - قد بقي لك من العمر بقية. ختمها.. لا شك.. أنك حين تتكلم عن المؤثرين بالأسرة وهم ثلة من عموم الجمع، ممن فقدهم أعز - والله - على النفس، إلا وذاكراً من ذاك الرهط الخال ناصر، لأنه من عضاضة الأسرة، فلا مناسبة إلا وتجده، ولا مشاركة إلا وأقدم، هذا إن لم يتقدم ابتداء.. لها - بتبنيها -، ولا صلح إلا.. وله في الغالب يد يرحمه الله. أقول بهذا، أو نحو قولي.. برغم الجسد الموهن، والمكلوم بالأمراض، ومع هذا لا يوفر نفسه، فكيف يوم كان صحيحاً. فخالي - هذا - لا يضنّ ولا يلتفت إلى عياه، مهما كان (ثقله)، ولو التفت قليلاً، لربما تدارك، لكن.. أما مواسم الخير فله يد بيضاء أخرى.. فما أن يقبل رمضان إلا وتجد له سهماً غائراً في التفطير والعون وبذل الخير، وما أن يأتي الحج إلا ودلك على من يُحجج، ولا تُقبل الأضحية إلا وقدّم في تيسيرها من الخيارات ما يُخجلك من أن تعتذر.. الخ. أٌقول بهذه، وأخص أياديه داخل الأسرة، إلا فحدّث عن أبو عبد العزيز ولا حرج، بل لو عرضتُ لبعضها لاحتاج جهداً موازياً لهذا المقال. أجل، قد كان أنموذجاً لكل من دفع ذاته مع.. بعض ما أُرْكس فيه الأم، ولا أٌول عوق البدن. بل ما يأتي صاحب حاجة في ليل أو نهار أو من استشف فيه خيراً، إلا وعاضد وساعد وشفَع وتشفّع، وجمح لذاك ذاته ولم يعي.. له ثقلاً، أو كانت أتعاب جسده التي أُنهك -رحمه الله- له عذراً.. وأثابه على صبره.. (بل تصبّره) من تسلسلها عليه، حتى وقع وقعته الأخيرة.. والتي هي الأخرى لم تُعق لسانه من الذكر والشكر.. وقلبُه من الصبر والاحتساب، وعدم الشكوى أو شرح للبلوى.. بل كان أكبر ما أشغله ونحن على مشارف رمضان ب(هل يمكنني الصيام؟)، كذا ذكر لي ابنه عبد العزيز.. بارك الله به، فإني وجدت به محاري من أبيه. هذه جزئيات عن خالي، فما حالي عليه إلا كمن فُقد ولدها، وهو في حجرها!