الرثاء في الأدب العربي هو الأقرب للنفس البشرية من أي فن آخر، وما بالك إذا كان المرثي قريباً إلى نفوسنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا ومشاعرنا، قبل أيام قلائل مات الأديب الخالد، مات الرجل العظيم، مات معالي الوزير الأديب الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر - عليه من الله شآبيب الرحمة والعفو والغفران. لم يكن موت الخويطر كموت أي إنسان عظيم، ولكنه بنيان قوم تصدعا، لم يمت الخويطر إلا بعد أن أحدودب ظهره تحت أثقال الأدب، ووطأة البحث والدرس والتنقيب، فخلف إرثاً أدبياً تاريخياً تراثياً يستعصي على العد، ويستثقل على الحمل، فعده وحده، وحمله بنفسه. مات الرجل الذي حياه الماضي، وابتسم له الحاضر، وصفق له المستقبل، أحبه الناس، ومجده التاريخ، فكان في عاطفة حب الناس وتقديرهم وتبجيلهم واحترام لسر من أسرار عبقرية الخويطر وجاذبيته وتفرده. حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً حتى يُرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار والنفس إن رضيت بذلك أو أبت فنقادة بأزمة المقدار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار فالدهر يخدع بالمنى ويغص إن هنا ويهدم ما بنى ببوار ليس الزمان وإن حرصت مسالماً خلق الزمان عداوة الأحرار لقد بكى الشعب السعودي معالي عميد الوزراء الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويطر - غفر الله له - بكاءاً حزيناً، وأنيناً حاراً، فقد أصابه القدر في فلذة من كبده، وقطعة من نفسه فترنح من هول الصدمة، وقوة اللطمة، ففاض رثاؤه على صفحات الصحف كلمات باكية، وصوراً رثائية حزينة، بعيدة كل البعد عن الصنعة والتكلف والافتعال، وفي هذه المقالات الرثائية نلمح لوعة الأسى، وشدة الفجيعة، وتدفق العاطفة، وافتقاد الصبر وانصداع النفس، فقد جاء ندبه صادقاً مخلصاً نابعاً من مستقر فؤاده، ومرتكز قلبه، حيث بكاه وعدد محاسنه لأن الحزن حرق كبده، ولذعها حزناً وألماً وفجيعة فتقرحت العيون، وانهالت الدموع، فتقاطرت شحنات الالم، فلم يجد دواءاً أنجح من الصبر، وأقوى من التصبر، وها هي أناته الحرى تقول: أقول والقلب في أضلاعه شرق بالدمع لا عدت لي يا يوم ميلادي نزلت بي ودخيل الحزن يعصف بي وفادح البث ما ينفك معتادي وكنت تحمل لي والشمل مجتمع أنساً يفيض على زوجي وأولادي فانظر ترى الدار قد هيضت جوانبها وانظر تجد أهلها أشباح أجساد فقدتها خلة للنفس كافية تكاد تغني غناء الماء والزاد تحنو عليّ وترعاني وتبسط لي في غمرة الرأي رأي الناصح الهادي لقد عاش الخويطر - عليه رحمة الله - واحداً وتسعين عاما مكللة بالعطاء والنماء، والإخلاص والبذل عشت تسعين حجة ثم وافيت مضجعي ليس شيء سوى التقى فخذي منه أو دعي ولد عليه - رحمة الله - عام 1344ه في مدينة عنيزة بالقصيم العامرة، وبالمملكة العربية السعودية الخالدة، جزء من دراسته الابتدائية في عنيزة ودرس الثانوية في مكةالمكرمة، وحصل على الليسانس من دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1371ه ثم حصل على الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام 1380ه وعلى إثرها عين في العام نفسه أميناً عاماً لجامعة الملك سعود، ووكيلاً للجامعة عام 1381ه حتى عام 1391ه حيث درّس تاريخ المملكة العربية السعودية لطلاب كلية الآداب، ثم انتقل رئيساً لديوان المراقبة لمدة عامين على وجه التقريب، وأيضاً وزيراً للصحة لمدة عامين تقريباً، فوزيراً للمعارف لمدة 21 عاما، وفي عام 1416ه عين وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء. تلكم هي السيرة الذاتية لعميد الوزراء عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر - عليه من الله الرحمة والغفران -. وأما كتبه فهي مستعصية على العد ومنها على سبيل المثال لا الحصر ي عام 1390ه ألف كتابي: (الشيخ أحمد المنقور في التاريخ) و(عثمان بن بشر)، وفي عام 1395ه ألف كتيب: (في طرق البحث)، وطبع في عام 1396ه كتابه عن الملك (الظاهر بيبرس) باللغتين العربية والإنجليزية). وحقق عام 1396ه كتاب (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر)، ثم حقق كتاب (حسن المناقب السرية المنتزعة من السيرة الظاهرية) لشافع بن علي ونشره عام 1396ه، ثم ألف (من حطب الليل) الطبعة الثانية عام 1398ه، والثالثة عام 1425ه، وألف عام 1412ه - 1991م كتاب: (قراءة في ديوان محمد بن عبدالله بن عثيمين) وبين عامي 1409 و1414ه ألف كتاب (أي بني) في خمسة أجزاء، ثم عام 1414ه ألف كتابه (إطلالة على التراث) في سبعة عشر جزءاً، ثم عام 1418ه ألف كتابه (يوم وملك) وما زال عليه الرحمة والغفران على شد ومد وجزر وقدم وساق مع صديقه الوفي حتى اتحف تاريخ السيرة الذاتية السعودية بكتابه التحفة (وسم على أديم الزمن)، والتي ربت أجزاؤه على الثلاثين جزءاً وغير ذلك من كتب مجدها التاريخ، وقدرها الأدب، ووقفت لها عقول الرجال احتراماً وتبجيلاً، عاش حياً محموداً، ومات ميتاً مغفوراً - إن شاء الله تعالى - الخويطر ثروة وطنية لم يفرط فيها ملوك الدولة السعودية أحياءاً وأمواتاً. وقد قال هذه القولة فيه أفرس الناس وأحدهم ذكاءاً وعقلاً ونباهة صاحب السمو الملكي الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود - عليه من الله شآبيب العفو والرحمة والغفران وواسع الجنان -. وأخيراً: فيا أيها الرجل العظيم! طبت حياً وميتاً. عشت حياة مغتبطة بالهناء لا يرفع الإنسان رأسه فيعلم ما فوقه، ولا يخفضه فيرى ما تحته إلا رجال بجلهم التاريخ، فحظوا بفراسة نادرة، وتصور حاذق، وتخطيط دقيق، ورسم قلَّ أن يخطئ أو ينتحي جانب الصواب والحق والأمانة فلله درك أيها الخويطر، حزنت لفقدك، وبكيت لموتك، وولهت لرؤيتك فلك الله أيها الخويطر، لك الله حياً وميتاً حاضراً ومغيباً وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع ** ** ** * ينظر من عيون المراثي، تحقيق: الدكتور محمد إبراهيم نصر، طبعة مطابع الاشعاع ضمن سلسلة تصدرها دار الرشيد - الأعمال الكاملة للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي، طبعة: 2007م - 1428ه الدار النموذجية للطباعة والنشر، صيداً - بيروت.