أمراء المسلمين وولاتهم في قديم الزمان.. كانوا يختارون من يولونهم أمراً من أمور المسلمين بكل عناية ودقة.. فيتأكدون من عقل الرجل.. وقوّته.. وصبره.. وعلمه.. وحسن تصرفه.. ومن بعد صدور الموافقة على التعيين.. يقوم الوالي بالاجتماع بالشخص المعيّن في أمر شأن من شئون المسلمين كوالٍ لأحد البلدان مثلاً.. ومعروف أن البلدان الإسلامية آنذاك لا تربطها طرق حديثة ولا مواصلات منظمة.. ولا وسائل تسهل الاتصال.. ولا هاتف.. ولا شيء غير وسائل الاتصال العادية والبدائية جداً كسعاة البريد الذين ينقلون البريد من مكان إلى آخر سيراً على الأقدام.. وأحياناً ركوباً على الجمال أو الخيل. إذا كان ثمة استعجال لإيصال الرسالة.. وهكذا.. ولهذا فإن من يتم تعيينهم في مناصب الدولة من الولاة والمحافظين على التسمية الحديثة.. يترك لهم أمر إدارة شئون البلد المكلفين برعاية شئونها.. أخذاً بالحكمة القائلة (يرى الحاضر ما لا يرى الغائب) والحكمة الأخرى التي تقول (أرسل حكيماً ولا توصه).. ولكن ولاة المسلمين وأمرائهم.. من باب الحرص على الرعية وعدم الإساءة إليهم في شيء أو التقصير في حقوقهم أو ظلمهم أو نحو ذلك، يحرصون على إسداء النصح والموعظة الحسنة والسليمة التي بها يستطيعون إدارة شئون من ولوهم أمرهم من المسلمين.. فيصغي الولاة إلى النصيحة بآذان صاغية وأذهان متفتحة وقلوب خاشعة.. لأنهم هم أيضاً يودون أن تكون إدارتهم لشئون إخوانهم المسلمين إدارة موفقة لا تسفر عن مشاكل لهم وللآخرين.. ولا يريدون الإساءة لأحد أو ظلمه.. لأنهم جميعاً ينشدون في عملهم رضا الله ومن ثم خدمة من ولاهم الله عليهم من المسلمين.. لأنهم يؤمنون في قرارة نفوسهم أن الظلم ظلمات يوم القيامة.. ومن أهم تلك النصائح ما روته لنا كتب الأدب والتاريخ عن عبد الملك بن مروان وابنه الوليد حين ولاه دمشق.. فقد كانت نصيحة موفقة.. فيروى عن عبد الملك بن مروان لما ولى ابنه الوليد دمشق كتب له بذلك وقال له: (يا بني لأبيك صنائع قد رسخت في المجد أصولها وأورقت في العلا فروعها وانتشر عند الناس ذكرها.. فلا تهد من ما قد شرف لك بناؤه وأضاء لك ضياؤه.. فكفى من سوء رأي المرء وقبيح أثره وضعه نفسه أن يهدم ما قد شيد له من فضيلة البناء.. ورفيع الثناء.. وإياك وأعراض الأحرار.. فإنّ الحر لا يرضيه من عرضه عوض.. واجتنب العقوبة.. فإنها أمر مطلوب وعار باق.. ولا يمنعك من ذي فضل سبقت إليه صنيعة غيرك أن تصطنعه.. فإنّ صنيعة ذي الفضل شكر تستوجبه.. وكنز تدخره.. واستعمل أهل الفضل دون أهل الهوى.. ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة.. وليكن جلساؤك غير أسنانك.. فإنّ الشباب شعبة من جنون.. وإن نازعتك نفسك على أخذ شيء من المال.. فلا يكن خصمك إلا بيت المال.. وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفهم عني وعنك.. وإذا كتبت كتاباً فأكثر النظر فيه.. فإنّ الكتاب موضع عقل الرجل ورسوله موضع عقله). وفي هذا السياق يقول الشاعر: إذا لم يعنك الله في ما تريده فليس لمخلوق إليه سبيل وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصراً وإن عز أنصار وجل قبيل وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماء دليل هكذا كان الأولون يتعاملون مع ولاتهم من حبهم لهم وشغفهم عليهم وعلى من ولوهم أمرهم من المسلمين.. فليتنا نرجع إلى تراثنا وكتب الأدب وأقوال ونصائح الأولين من قادة المسلمين ونحذو حذوهم .. ليتنا نتدبّر ما خلّفه الأولون لنا من الحكم والمواعظ والسيرة الحميدة .. ليتنا نقتفي أثرهم ونسير على نهجهم .. فنستفيد من مآثرهم وحكمهم ونصائحهم القيمة .. لكن مشاغل الحياة والجري وراء المادة أشغلانا عن كل شيء سواهما وأخذا منا جلّ الاهتمام.. نسأل الله للجميع التوفيق والنجاح .. والله الهادي إلى سواء السبيل.