كانت مفاجأة سارة أن أرى الإعلان الكبير المنشور على صفحة كاملة من (الجزيرة) عن تأسيس جائزة أحمد بن حمد اليحيى المخصصة لمكافأة الممارسين لمهنتهم وحرفتهم بأيديهم في سوق العمل الحر. مبعث السرور ليس الجائزة نفسها، فالجوائز كثيرة، ولم يكن مفاجئاً أن من تبنّى الجائزة ويموِّلها هو الصديق أحمد اليحيى صاحب الخبرة الطويلة الذي قضى الشطر الأعظم من حياته العملية مسؤولاً عن شؤون العمل كمدير عام لمكتب العمل في المنطقة الغربية بجده أولاً، ثم وكيلاً لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية لشؤون العمل. وبعد ذلك لم ينقطع اهتمامه بقضايا العمل وتوطين العمالة مطلقاً. مبعث السرور هو ما تتضمنه الجائزة من مدلول اجتماعي - بل تنموي، عبّر عنه مؤسس الجائزة في موقعها على الإنترنت بإيضاح أهدافها والدوافع التي حملته على تأسيسها. لقد أتى علينا حينٌ من الزمان -منذ طفرة منتصف التسعينات الهجرية - ظننا فيه أن المهن الحرفية قد انقرضت في مجتمعنا السعودي وأصبحت أجنبيه، ليس فقط في سوق العمل الحر، بل بشكل رسمي عندما طويت سجلاتها من التشكيلات الوظيفية وحوِّرت إلى مسميات وظيفية أخرى. أذكر من أيام عملي في مستشفى الرياض المركزي في التسعينات الهجرية أن معظم المهن الحرفية (سباكة، كهرباء، نجارة، طهي ... إلخ) كانت في أيدي السعوديين، يمارسونها بكفاءة وإخلاص، وكانوا يعينون على وظائف مدرجة في تشكيلات المستشفى بمراتب تبدأ بالأولى. ومنذ بدأ تسليم التشغيل غير الطبي للشركات في نهاية التسعينات الهجرية لم نعد نراهم يمارسون العمل الميداني، ولم يعد يعيَّن أحدٌ على وظائفهم الشاغرة، ثم حورت جميع وظائف المهن الحرفية إلى مسميات أخرى لدعم الملاك الوظيفي للمرفق الصحي. أما في السوق الحرة فقد بدأ الانقراض مبكراً بسبب منافسة الوظيفة الحكومية في الدخل المضمون من جهة، ودخول الأنماط الحديثة في المعيشة وبناء وتجهيز المنازل من جهة ثانية، والنظرة الاجتماعية السلبية. ولم يحدث فراغ في السوق لأن إخواننا من بلدان عربية وإسلامية ملأوا تدريجياً هذا الفراغ. وعلى أية حال فإنه منذ نهاية التسعينات الهجرية اكتسحت السوق أيضا العمالة الوافدة من خلال الاستقدام بواسطة الشركات والكفلاء الشكليين المسرِّحين للعمالة أو المتسترين عليها. لم يكن اختفاء المهنيين السعوديين من السوق إذن بسبب ندرتهم ؛ فقد خرجت مراكز التدريب المهني والمعاهد الصناعية عشرات الآلاف منهم منذنشائها، لكنهم كانوا يفضلون الالتحاق بالوظيفة الحكومية المضمونة، حتى وإن كانوا لا يمارسون ما تعلموه، فلم تكن سوق العمل الحر جذابة لهم، لأن المنافسة مع العمالة الوافدة ليست في صالحهم بسبب تدني أجورها وتفرغ أفرادها للدوام الطويل ؛ هذا إلى جانب النظرة الاجتماعية غير المشجعة. جميع هذه العوامل التي أبعدت السعوديين عن ممارسة المهن الحرفية في السوق طرأ عليها تبدلٌ نسبي في وقتنا الحاضر، وإن كان بدرجات متفاوتة. فقد أدّت الإجراءات الأخيرة (النطاقات وزيادة رسوم رخص العمل، ومكافحة الإقامة غير النظامية والتستر، وإلزامية التأمين الصحي) إلى عودة عدد كبير من العمالة الحرفية الوافدة إلى ديارهم، وأصبحت اليد العاملة أكثر كلفة عن ذي قبل، مما يفتح بعض الفرص أمام السعوديين. أما الوظائف الحكومية فقد تشبعت بشاغليها، ولم يعد من السهل الحصول على وظيفة حكومية - خاصة مع استمرار أسلوب التعاقد مع شركات التشغيل كما هو، مما يجعل اللجوء إلى سوق العمل الحر من أفضل الخيارات المتاحة. وأخيراً فإن المجتمع بدأ يحس بالشوق للعامل الوطني ويقيِّم توطين ممارسة المهن الحرفية إيجابيا، بعد أن اتضح تأثير استحواذ العمالة الوافدة على سوقها، ودعّم هذا التقييم الإيجابي جدِّية الدولة في جهودها لجذب المهنيين إلى سوق العمل، من خلال حوافز صندوق تنمية الموارد البشرية ودعم المشاريع الصغيرة وتشجيع الأسر المنتجة، وحذت بعض مؤسسات القطاع الخاص حذو الدولة في هذا الشأن. من ذلك كله يمكن القول إن رياحاً جديدة من ثقافة العمل بدأت تهب على مجتمعنا. لكن الفراغ في سوق العمل لا يزال كبيراً على الرغم من هذه العوامل المشجعة، لاعتقاد الكثيرين أن المجهود سيكون أكبر من المردود، وأنه لا يوجد ما يعادل طمأنينة الوظيفة. من أجل ذلك وفي هذا الوقت بالذات تكتسب جائزة أحمد اليحيى أهمية خاصة، لأنها أولاً تسهم في بعث الاهتمام بتوطين ممارسة المهن الحرفية في سوق العمل الحر، ولأنها ثانياً تمثل تكريماً لمجهود تم بذله وحفزاً للتميز في الممارسة، ولأنها ثالثاً نموذج للمسؤولية الاجتماعية التي تأخذ بيد صاحب المهنة، وتجعله يشعر بالثقة لأن هناك تقديراً لعمله. إن توطين المهن الحرفية في سوق العمل لا يقلُّ أهمية عن توطين الوظائف، لأنه الأساس لبناء مجتمع منتج يعتمد على قواه الذاتية، والضامن لتحقيق أمنٍ اجتماعي.