يستشعر رأس المال الفرص الاستثمارية الواعدة بتوجيه ذاتي من رغبته في تحقيق هوامش ربح عالية، وتوجيه خارجي يتمثل في ظروف تهيئة الاستثمار التي تحرص الحكومات على إتاحتها لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وبعد أن كانت رؤوس الأموال الصغيرة نسبيا محدودة بحدود دولتها؛ أصبح بإمكانها الآن أن تجوب أرجاء العالم بحثا عن فرص الاستثمار بعد أن أسقطت قوانين منظمة التجارة العالمية الحواجز الحدودية، وتكفلت وسائل الاتصال الحديث بإسقاط ما تبقى من تلك الحواجز، لكن هذا التطور لم يمنع عددا آخر من العوائق من البقاء حجر عثرة في طريق حرية انتقال رأس المال عالميا؛ فرأس المال الذي يقطع آلاف الأميال بحثا عن الفرصة؛ يفقد جرأته إذا ما استشعر شيئا من عدم الاستقرار أو القلاقل المحلية. السودان الشقيق أحد النماذج التي يقاس عليها في هذا السياق، فقد أثبتت الدراسات الأولية التي أجريت في الربع الأخير من القرن الماضي أن عينات التربة في جميع مناطق السودان غنية بالكثير من المعادن، وأنها تتدرج من الذهب الأصفر والذهب الأسود إلى الفوسفات والمنجنيز والحديد والنحاس والألمونيوم، ورغم هذا لم تجرؤ شركة واحدة آنئذ على التقدم بطلب للتنقيب عن المعادن في السودان بسبب الحظر الدولي الذي فرض على السودان لفترة طويلة نسبيا، وبسبب الحرب الأهلية في الجنوب والقلاقل التي ثارت في دارفور. بعد أن تجاوز السودان كل هذه الأسباب انهالت الاستثمارات عليه من كافة دول العالم للاستثمار في مجالات عديدة أهمها الزراعة والتعدين، ولنأخذ حجم الاستثمارات السعودية هناك برهانا للتدليل على صدق هذا الرأي، فخلال السنتين الأخيرتين احتلت السعودية المرتبة الأولى في قائمة الدول العربية المستثمرة في السودان حيث ازدادت الاستثمارات السعودية بشكل ملحوظ؛ فبلغت أكثر من خمسة مليار دولار بنهاية عام 2013م ، وتبعه ارتفاع في حجم التبادل التجاري بين المملكة والسودان ليتجاوز أربعة مليار دولار، ولا يجب النظر إلى هذه الأرقام في حد ذاتها؛ فقد تبدو قليلة نسبيا، ولكن يجب النظر إلى معدل الزيادة السنوي بعد الاستقرار السياسي الذي بدت بوادره بانتهاء الحرب في الجنوب، وفرض الأمن على ربوع السودان. إذا تجاوزنا الاستثمارات السعودية في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني وتصنيع اللحوم، وأخذنا التنقيب مثالا نجد أنه في مدة لا تتجاوز السنة تزايدت أعداد الشركات السعودية التي تخوض غمار التجربة في السودان بشكل ملحوظ، فقبل أيام أعلنت شركة الدريس عن حصولها على امتياز للتنقيب عن المنجنيز في بعض مناطق السودان، وسبقتها شركة مجموعة بندر بن مشهور للتنقيب عن الذهب في ولاية البحر الأحمر، وشركة منافع السعودية والشركة العربية الأفريقية للتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأحمر، وشركة الفاصل السعودية التي حصلت على امتياز التنقيب في مساحات كبيرة من ولاية كردفان وولاية البحر الأحمر بحثا عن الذهب والحديد والنحاس. ثروة السودان ليست فقط فيما على سطح الأرض من تربة رسوبية منبسطة صالحة للزراعة ومياه سطحية وجوفية وثروة حيوانية غير مستغلة، وليست أيضا فيما يحتويه باطن الأرض من معادن وثروات أثبتتها صور الأقمار الصناعية والدراسات التي أجريت على مدار العقود الماضية؛ لكن ثروته الحقيقية في السلام الاجتماعي والأمن الذي ظل طابعا سائدا للمجتمع السوداني على مر العصور، وهو ذاته السلام الذي جمع السودانيين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والعقدية تحت راية واحدة هي مصلحة الوطن لإرساء السلام والأمن في ولايات السودان؛ فأغرى هذا الاستقرار رؤوس الأموال السعودية وغير السعودية للهجرة غربا إلى السودان لتحط رحالها في موجات تذكرنا بالرواية الشهيرة التي كتبها الروائي السوداني الراحل الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال».