الأمة بكاملها بحاجة ماسة إلى كتاب الله الكريم حتى يبعث في نفسها الحياة والحركة، ويبني شخصيتها - كما أن الأرض بحاجة ضرورية إلى المطر من السماء، وكذلك الطفل الضعيف بحاجة إلى لمسة حانية، وكذلك الرجل المريض بحاجة إلى العلاج والدواء ....وهكذا. والمرء في هذه الحياة يعيش بين الرفع و الخفض وبين اليسر و العسر وبين البسمة و الدمعة، كما أن السنة تتكون من أربعة فصول مهمة - وكذلك الأرض بحاجة ماسة إلى هذه الفصول الأربعة صيفاً و شتاًء و ربيعاً وخريفاً، وهي بذلك تروي قصَّة حياة المرء في هذه الدّنيا التي يعيش بين ربيع عمرها الضاحك وبين خريفها وأيامه بالطاقة الواهية, وكذلك نبات الأرض لا يخرج على سطح الارض إلاَّ بعد أن تتضح براعمه وأزهاره ثم تجف أزاهيره وأوراقه وبراعمه وتتساقط أوراقه و تذوب أغصانه رويداً رويدا فهذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنه الله تحويلا.. فالإنسان مهما تتهيأ له من فرص إلا أنه يجد في حياته معوقات متعددة سواء من جانب دخله الشهري، أو من جانب عمله اليومي، أو من جانب أحداث الحياة المؤلمة و المحزنة التى تحيط به من كل جانب. فهو إذا يعيش أيام يسره وعسره ويحيا ربيع حياته وخريفها ويمسي ويصبح بين آمال باسمه وآلام محزنة ومؤلمة، وبذلك تكون حالته النفسية إما روح شامخة أو معنوية هابطة. وعندما ينتشل المرء من مستنقع وهدة اليأس إلى ساحة يجد فيها الهدوء النفسي وطمأنينة العقل الذي يمكنه من أن يقاوم عواصف المحن وأعاصير الأحداث التي تمر به فعند ذلك يعرف المرء المسلم جيداً أن ما أصابه من أمور في حياته إنما هي ابتلاء وامتحان به لصبره واختبار لرسوخ إيمانه، وإنما هو ليس غضباً إلهياً أو كراهية له من خالق السموات والأرض فإنه في ذلك الأمر أن يكون أمام هذه المصائب و المحن النازلة به صابر و محتسباً حتى تمر ما به من شدة وتنقشع غمتها ويصورها قول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم) {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فعندما يتابع المرء ما اعترض مسيرة حياة الأنبياء والرسل والعابدين والصالحين والأخيار من مكائد و مصائب و محن وآلام سيدرك تمام الادراك جيداً أن مسيرة الحياة لا يمكن أن تخلو من عثرات وزلات وعقبات ومصائب ومصاعب شتى؛ فنبي هذه الأمة - صلوات الله و سلامة عليه- ذاق مرارة فقدان الأب و الام والزوجة إلى جانب محنة خلاف الأهل واختلافهم وكذلك الحال بالنسبة للخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان و علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم - فإذا تحدثنا عن جانب الرزق المكتوب و الحظ المقسوم من هذه الحياة فالإسلام يقدم حاجة الناجح وعلاج الشافي لتلك الجوانب إنه يشاهد الرضى والقناعة فيما قسم رب العباد من الرزق و ما منح الحظ.وبتلك الجوانب من القناعة والرضى تكون الحياة طيبة والعيش هادئاً والنفس آمنة. ولقد ورد أن نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامة عليه حين سئل عن تفسير الحياة الطيبة التي جاءت في قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (97) سورة النحل، أجاب بأن الحياة الطيبة هي القناعة بل إنه صلوات الله وسلامه عليه كان يرى في الأمن الذي يعيشه الإنسان في أسرته ووطنه القوت الذي يتوافر له في يومه - كان يرى - في ذلك كله الحياة بسعادتها واطمئنانها. يقول عبيد الله بن محصن الخطمي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) رواه الأمام الترمذي في سننه. الأمن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان و الاسلام، ولا يشعر بهذه النعمة إلا من فقدها. قال الله تعالى في محكم كتابه {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأنعام: 82 وقوله معافى في بدنه - أي صحيحاً سالماً من العلل والأسقام فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول {اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام} وكان نبي الأمة المحمَّديَّة صلوات الله وسلامه عليه يسأل ربَّه صباحاً ومساءً هذه العافية في دينه ودنياه ونفسه وأهله وماله، وأمر أصحابه بذلك وعنده قوتُ يومه أي قدر مايفديه ويعشيه والطعام من نعم الله العظيمة وقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} سورة قريش. ومما تقدم سلفاً يتبين أن من اجتمعت له هذه الخصال الثلاث في يومه، فكأنما ملك الدنيا كلها فقد قال عايد: كان الإمام الخواص رضي الله عنه (أنت عبد ما تطمع، وعبد ما تشتهي وعبد ما تخاف، فإن أنت ارتفعت فوق الطمع والاشتهاء والخوف فأنت حر) نرى في ذلك إشارة للمرء المسلم حتى لا تستعبده مطامعه، وتستذله مطالبه ودعوة له أن يرضى بما أعطاه الله من رزق ويقنع بما قسم له من حظ حتى يعيش حراً راضياً، فإن من المحاذير التي نخشى منها على قناعة المرء المسلم ورضاه، حتى لا يتبدد هدوءه النّفسي، ويتحطم رضاه على صخور من أبجديات الحسد والحقد والشَّرَّ والكراهية والبغضاء والطّمع والجشع ومن المحاذير التي يجب على المرء أن يبتعد عنها بقدر ما يستطيع أن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين دون (حصانة إيمانية) أو رضي بقدر الله واختياره ويقول نبي الأمَّة محَّمد صلوات الله وسلامه عليه موجهاً للمرء المسلم حتى لا يستذله حسد أو طمع فيضل ويضل، ويكره ويسخط فيقول (إذا نظر أحدكم إلى من هو فوقه في الرزق، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ذلك أحرى ألا يزدري نعمة الله عليه) ويقول نبي الأمَّة صلوات الله وسلامه عليه (إن الله قسم بين النَّاس حظهم من الخلق كما قسم لهم حظهم من الرّزق)، ولنا أن نقول كذلك : اليست الصّحة والعافية رزقاً ؟ أليست الذّرية الصّالحة منحة ؟ أليست سلامة الدِّين مظهر رضى ؟ فلننظر إلى نعم الله تعالى التي تحيط بنا من كل جانب حتى تكون لدينا قناعة واطمئنان يغمر انفسنا بالسّلامة والهدوء والرّضى، وإن حياة المرء المسلم دون ذلك الرّضى ستصبح غابة صراع وكراهية وسخط وحقد وحسد. وصدق رب العزة والجلال في محكم كتابه الكريم {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فهل الرّضى والقناعة دعوة إلى السلبية ، وهل معنى القناعة صمت بدون حركة أو جهداً؟ أننا من خلال ما ذكر سلفاً أن ندعو كل واحد مِنَّا إلى الرّضى بما كتب الله له والقناعة بما أعطاك.. ولكن نقول لكل واحدٍ مِنَّا بدون استثناء: إن لك يداً فلتعمل بها وقدماً فلتسع عليها، وعقلاً فلتأخذ منه مشعل طريقك وقلباً تقتحم به اشواك الحياة ،كما قال تعالى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} سورة الملك آية (15). ومن خلال ما ذكر يا أخي الكريم تبين أن القناعة في حقيقتها أدب مع خالق السموات والأرض.