كان العرب يتكالبون على النساء، تكالبهم على المال والإبل والثريد. رُوي أنّ (معاوية بن أبي سفيان) جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له ب(دمشق)- حرّرها الله من الظُّلْم والطغيان!- على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتَّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينا هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يُسرع في مشيته راجلًا حافيًا، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية، ثمّ قال: يا غلام سِرْ إليه واكشف عن حاله وقِصّته، فوالله لئن كان فقيرًا، لأغنينّه، ولئن كان شاكيًا، لأنصفنّه، ولئن كان مظلومًا، لأنصرنّه، ولئن كان غنيًّا، لأُفقرنّه! فخرج إليه الرسول متلقّيًا، فسلّم عليه، فردّ عليه السّلام. ثم قال له: ممّن الرجل؟ قال: سيّدي، أنا من (بني عذرة)، أقبلتُ إلى أمير المؤمنين مشتكيًا إليه بظُلامةٍ نزلت بي من بعض عُمّاله. فسار به الرّسول حتى وقف بين يدَي معاوية، فسلّم عليه بالخلافة، ثمّ أنشأ يُنشد أبياتًا. فلمّا فرغ من شِعره، قال له معاوية: يا أعرابيّ، إنّي أراك تشتكي عاملًا من عُمّالنا ولم تُسمّه لنا! قال: هو، والله، ابن عمّك (مروان بن الحكم) عامل (المدينة). قال معاوية: وما قِصّتك معه؟ قال: كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوَّجني منها. وكنت كَلِفًا بها لِما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيتُ معها في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسرورًا زمانًا، قريرَ العَين. وكانت لي صرمةٌ من إبلٍ وشُويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيتُ لا أملك شيئًا، وصرتُ مَهينًا مفكِّرًا، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلًا على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها، حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرة. فأتيت إلى عاملك مشتكيًا بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل، لِمَ حُلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوّجته من ابنتي قط. قلت أنا: أنا راضٍ بحكم (سُعدى)، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها، فأتت مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه، ونظر إليها وإلى حسنها وقعتْ منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي خصمًا وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن! فبقيت كأني خررت من السماء في مكانٍ سحيق، ثم قال لأبيها، بَعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إنْ أنت فعلت ذلك، زوّجتها منك. فلمّا كان من الغد بعث إليَّ، فلمّا أُدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابيّ، طلِّقُعدى! قلت: لا أفعل! فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني، قال: عليّ بالأعرابيّ! فلمّا وقفتُ بين يديه، قال: طلّق سُعدى! فقلت: لا أفعل! فسلّط عليَّ خُدّامه فضربوني ضربًا لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثم أمر بي إلى السّجن. فلمّا كان في اليوم الثّالث، قال: عليّ بالأعرابيّ! فلمّا وقفتُ بين يديه، قال: عليَّ بالسّيف والنّطع وأُحضر السيّاف! ثم قال: يا أعرابيّ، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلِّق سُعدى، لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك! فخشيتُ على نفسي القتل، فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السُّنَّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن، فحبسني فيه حتى تمّت عدّتها، ثم تزوّجها، فبنى بها، ثم أطلقني. فأتيتك مستغيثًا، قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني، يا أمير المؤمنين! فوالله، لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيتُ في حبّها بلا عقلٍ! ثم انتحبَ حتى كادت نفسه تفيض. ثم أنشأ يُنشد شِعرًا، ثم خرّ مغشيًّا عليه بين يدي أمير المؤمنين، كأنّه قد صُعق به! وكان في ذلك الوقت معاوية متّكئًا، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه، قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! اعتدى، والله، مروان، ضرارًا في حدود الدِّين، وإحسارًا في حرم المسلمين. ثم قال: والله، يا أعرابيّ، لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعتُ بمثله! ثم قال: يا غلام، عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ، فكتب إلى مروان: «أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديتَ على رعيّتك في بعض حدود الدِّين، وانتهكتَ حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان واليًا على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمه، فإذا رفق بها، بقيتْ معه، وإذا كان لها ذئبًا، فمن يحوطها بعده.» ثم ختم الكتاب. وقال: عليَّ ب(نصر بن ذبيان) و(الكميت)، صاحبَي البريد. فلمّا وقفا بين يديه، قال: اخرُجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم، ولا تضعاه إلّا بيده. فخرجا بالكتاب حتى وردا به على مروان، فسلّما، ثم ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردِّده، ثم قام ودخل على سُعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرتْ إليه، قالت له: سيّدي، ما الذي يُبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، وَرَدَ عليَّ في أمرك، يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولَين ثم يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ! فطلَّقها، وجهَّزها، ثم كتب إلى معاوية بأبيات. فلمّا وَرَدَ الكتاب على معاوية، فَكَّهقرأ أبياته، ثم قال: والله لقد أحسنَ في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه! ثم أمر بسُعدى فأُدخلت إليه، فإذا بفتاةٍ رُعبوبةٍ، لا تُبقي لناظرها عقلًا من حُسنها وكمالها. فعجب معاوية من حُسنها، ثم تحوّل إلى جلسائه، وقال: والله إنّ هذه الفتاة لكاملة الخَلق، فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصِّفة، لقد كملت النِّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثم قال: عليَّ بالأعرابي! فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سُلُوٍّ، وأُعَوِّضكَ عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ، مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خُلَعٍ من الخزّ والديباج والحرير والكتّان، وأُجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظًّا من الصِّلات والنَّفقات؟ فلما أتمَّ معاوية كلامه، غُشي على الأعرابي، وشهقَ شهقةً ظنّ معاوية أنه قد مات منها. فلمّا أفاق، قال له معاوية: ما بالك يا أعرابيّ؟ قال: شرُّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعدلك، يا أمير المؤمنين، من جور مروان! ثم أنشأ يقول: لا تجعلّني، هداك الله من ملكٍ كالمستجير من الرَّمضاء بالنارِ! ثم قال: والله، يا أمير المؤمنين، لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة، ما رضيتُ به دون سُعدى. قال له معاوية: إنك مُقِرٌّ عندنا أنّك قد طلَّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيِّرها بيننا! قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها، ثم قال لها: يا سُعدى أيُّنا أحبّ إليك؟ أمير المؤمنين، في عِزِّه وشَرَفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الفتاة نحو ابن عمّها الأعرابي، ثم أنشأت تقول: هذا، وإنْ كان في جوعٍ وأطمار أعزّ عندي من أهلي ومن جاري ثم قالت: لستُ، والله، يا أمير المؤمنين، لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أَحَقّ مَن صَبَرَ معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشِّدَّة والرخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومَن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها، وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ، وألحقها في صدقات بيت المسلمين.(1) -2- وأمّا نظرة الغرب إلى المرأة، فقِمَّة في التحضّر! كيف لا، وقد كانوا حائرين أ بَشَرٌ هي، أم حيوان، أم شيطان؟! وقد اجتمع مؤتمر (ماكون)، في القرن الخامس عشر الميلادي، لبحث هذا الإشكال العويص، وانتهى من مباحثاته إلى أن المرأة النصرانيّة حطبُ جهنم، لأنها بِلا روح، واستثنى منهنّ جميعًا (مريم العذراء)، فقط لا غير! لا لشيء إلّا لكونها أُمّ (المسيح بن مريم)؛ وذلك يشفع لها في النجاة من جهنم! وقد عُدَّ ذلك تطوُّرًا تاريخيًّا في النظرة إلى المرأة! وقبل ذلك، وفي عام 568م، مثلًا، عقد (الفرنسيّون) مَجْمَعًا عِلميًّا مهيبًا خاصًّا لدراسة هذا الموضوع الجَلَل: تُرى هل المرأة إنسان؟ أم شيطان؟ أم ماذا؟ وبعد بحثٍ مستفيضٍ، توصَّلوا إلى نتيجةٍ مفادها: أن المرأة إنسان «في الظاهر»، ولكن إنما خُلِقت لخدمة الرجل، بوصفه «الإنسان الحقيقي»! ولذا كانت المرأة إلى القرن الثامن عشر تُباع وتشترى، كالمتاع في (أوربا). وجاء في القانون الإنجليزي لعام 1805م جواز بيع الرجل زوجته. وكان ثمنها المنصوص عليه (ستة شلنات) لا أكثر! فالسعر محدود، والعتب مرفوع، والرزق على الله! وقد عُدَّ كذلك تطوُّرًا حضاريًّا لافتًا في ذلك القانون أن وَضع شرطًا لبيع الرجل امرأته، أن توافق هي! حكايات المرأة في هذا بلا انتهاء. وما أشبه الليلة بالبارحة! *** (1) انظر: ابن القيّم الجوزيّة، (1983)، أخبار النساء، تح. نزار رضا (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 12- 20 .