في حقبة من المنافسة الضارية، والسخرية المتأصلة، والتخريب الناتج عن التكنولوجيا الرقمية، هل يبدو من المنطقي الرهان على الأفعال الصغيرة التي تنمّ عن لطف؟ في هذا السياق، يمكن الكلام عن موجة تقارير إعلاميّة ساخرة حتّى الحقد، صدرت في الآونة الأخيرة، وطالت نجاح سلسلة متاجر «بريت أ مانجي» Pret a Manger السريعة النمو (وتضم 323 متجراً حول العالم)، التي تتخصص ببيع السندوتشات السريعة التحضير، وتعرّضت لالتزامها غير المبرر بتطوير قوى عاملة إيجابية، ومبتهجة وسعيدة لا تتوقف عن توزيع الابتسامات. ومن الأمور التي تميّز عرض متاجر «بريت» تشكيلة واسعة من السندوتشات الطازجة (وإن كانت معدّة مسبقاً). وبفضل هذا النموذج، بإمكان الشركة تلبية طلبات العملاء، ليدخلوا إلى المتجر ويخرجوا منه في وقت قصير جداً لا يتخطى الستين ثانية - وهو من الأمور التي تعتري قيمة حقيقية بنظر موظّفي المكاتب المستعجلين، وهم العملاء الذين تستهدفهم الشركة. غير أن سلسلة متاجر «بريت» تريد أن تملأ هذا الوقت القصير بالابتسامات، والطاقة الإيجابية، إلى جانب الروابط البشرية الصادقة، لا سيّما في تعاطيها مع العملاء الذين يقصدون المكان بصورة متكررة. ويطلق الرئيس التنفيذي كلايف شلي على هذه الظاهرة اسم «شائعات بريت». وقد رصدت الشركة سلسلة «أنماط سلوك تميّز بريت» سمحت بانطلاق الشائعات، فضلاً عن برنامج تدريب حثيث يسمح بإرساء أنماط السلوك هذه. إنّها فلسفة استقطبت انتقادات صاخبة على جانبي المحيط الأطلسي. وقد صدر الهجوم الأول عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»، التي اعترضت على الفكرة التي تشير إلى ضرورة أن يتعدّى المطلوب من الموظفين مفهوم توفير خدمات محترفة مقابل سعر مقبول. وقد تلاه هجوم للمحرّر تيموثي نواه من مجلّة «نيو ريبابليك»، الذي أطلق انتقاداً لاذعاً لمفهومَي «القوى العاملة العاطفية» و»السعادة المفروضة» الواقعَين في صميم نموذج شركة «بريت». وتساءل قائلاً: «لماذا يُضطرّ شخص يبيع سندوتشاً بجبن الشيدر والطماطم على إظهار «حضور» معيّن و»إضفاء روح مرحة»؟ لم لا يكتفي أو تكتفي بأداء المهام «مقابل المال وحسب»؟ لا أتوقع يكون فكّ رموز بطاقتي الائتمانية هواية أيّ كان، كونه من المهام الواقعة عند أسفل الهرم الاقتصادي». إنّه لسؤال جدّي، وسأعطي ثلاث أجوبة جدّية للردّ عليه. أوّلاً، لا أرى فقط نوعاً من التعالي، بل أيضاً غرابة في التفكير بأنّ وظائف المبتدئين، التي تقضي بخدمة العملاء، يجب أن تُنفّذ بحسّ من الواجب الذي يشوبه التجهّم، وبالاستناد إلى مهارات عمل محضة. ثانياً، ليست تجربة «بريت» موجّهة للجميع. وهو السبب الذي يدعو سلسلة المتاجر إلى تقييم المتقدّمين بطلبات عمل بالاستناد إلى تناسُب مزاياهم الشخصية مع أنماط السلوك الأساسية في الشركة، وتعيّن لهم جولات تجريبية في المتجر، يصوّت الموظّفون الحاليون من بعدها على ما إذا كان ينبغي تقديم عرض عمل بدوام كامل للقادمين الجدد. والملفت أن كلّ شركة متميّزة صادفتها توضّح لكلّ ذوي الشأن أنه في حال لم يتكيّفوا مع مكان العمل، سيصعب عليهم الالتزام. وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه في عالم تعيد التكنولوجيا صقل معالمه، تُعطى أهمّية بالغة للأفعال الصغيرة التي تهدف إلى استحداث رابط. وما أغرب أن يفكّر المرء بأن ابتسامة نصر على وجه عامل الصندوق، أو إيماءة إقرار بالمعروف صدرت عن موظف رأى زبوناً ثلاث مرات في الأسبوع الواحد، سيهمّ الشخص الذي كان معنياً بهذا الاهتمام - أو الشخص الذي عبّر عنه. ولكنني أعتقد أن هذا الاهتمام مهم، إذ يسمح باستحداث تجارب بشرية أفضل وببناء مؤسسات تحظى بمستويات تقدير أكبر.