تتلقى مهاتفة لطيفة من صديق عزيز عليك يدعوك فيها إلى حضور زواج ابنه الأكبر ؛ ويصلك تأكيد لهذه الدعوة بطاقة جميلة كتب اسمك الرباعي على غلافها بخط يدوي متقن بديع! لا تملك أمام كل هذا الحرص من الداعي، واستجابة للصلة الطيبة بينكما، وتأكيدا لأواصر المحبة، ومشاركة للصديق العزيز في فرحه بزواج ابنه إلا أن تلبي الدعوة ؛ مهما كان لديك من عمل أو مواعيد سابقة ، وتبدأ في الاستعداد لحضور هذه المناسبة السعيدة وتهيئة نفسك لها من بعد عصر ذلك اليوم ، أو ربما أحياناً منذ الصباح باختيار اللباس المناسب؛ للظهور بمظهر أنيق جذاب يليق بالمناسبة وبالشخصيات الكبيرة التي ستحضرها. ولأن كثيراً من حفلات الزواج تتم في يومي الإجازة أواخر الأسبوع اللذين كانا سابقا قبل تعديل مواعيد العمل الحكومية الخميس والجمعة ، ثم صارا الجمعة والسبت ؛ فانتقل زحام الشوارع من اليومين السابقين القديمين إلى اليومين الجديدين ، فكان لابد للحضور مبكرا والشوارع مكتظة خلال نهاية الأسبوع أو بدايته بأرتال السيارات أن تبدأ انطلاقتك لحضور الزواج من بعد صلاة العشاء مباشرة ؛ أي الساعة السابعة والربع ، أو السابعة والنصف إن تأخرت في الاستعداد ، ويذهب بعض الحريصين على الحضور مبكرين إلى أداء صلاة العشاء في مسجد قريب من قاعة الاحتفال ! تعيد النظر في هندامك قبل أن تضع قدمك على البساط الأحمر المفروش والممتد إلى مدخل الصالة الرئيسة، وحين تكون وسط هذه القاعة الواسعة الفخمة المحتشدة بمئات المدعوين فإنك تحار إلى أين تتوجه بعد أن تنتهي من الطابور الطويل للسلام على العريس وتهنئته وتهنئة والده وأقربائه بهذه المناسبة السعيدة، ويكاد يداخلك شعور بالاطمئنان والرضا وأنت تصافح العريس الشاب الذي بدا في أجمل حلة وأبهى منظر وصديقك والده المزهو الفخور بتحقق هذه اللحظة السعيدة بتزويج ولده، يداخلك شعور مطمئن إلى أن مهمتك تكاد أن تكون انتهت عند هذه اللحظة ؛ فيدور في خاطرك تساؤل قلق: ماذا بقي بعد؟! مائدة العشاء الفخمة ، وانتظار ممل قد لا يكون طويلا قبل أن يُنادى المدعوون للدخول إلى قاعة الطعام ؛ لكنها وإن كانت دقائق معدودة فإنها تعادل يوما ثقيلا طويلا لا يتزحزح ؛ فها هي هذه الصالة الكبيرة الواسعة الممتدة المليئة بمئات المدعوين لا تسمع فيها إلا وشوشة وتحيات متبادلة وأحاديث متقطعة شبه صامتة هنا أو هناك! إنه صمت القبور ! طقطقة فلاشات الكاميرات، وكلمات تحايا ومباركات تتناثر بين الحين والآخر وصمت مطبق يخيم على بهو الصالة الفخمة فيزيدها هيبة ورهبة حتى ليقلق وليشق النهوض للسلام على صديق قديم جرته المناسبة للحضور جراً، ولا شيء يمكن أن يعبئ الوقت الثقيل المقطب إلا نظرات مستكشفة تدور بحذر وعلى استحياء متنقلة بين وجوه الحاضرين! أهو عرس أم مأتم؟! أهو فرح أم عزاء؟! أهو لقاء تعارف وتواد وصلة واستئناس بالناس أم أداء واجب ثقيل وتمثيل أدوار رسمية بكلمات محفوظة مكررة؟! أين هو ذاك الفرح الهارب الغارب من هنا ؛ من هذه القاعة الفخمة الصامتة ؟! ما الذي يمكن أن يعبر أو يفصح أو يومئ ولو إيماء محسوسا أن حياة جديدة تنسج خيوطها الآن هنا ؛ فلابد أن تزف بالرقصات والغناء والزغاريد؟! ما الذي يشير أو يؤكد لهؤلاء المدعوين أنهم بالفعل دعوا إلى معايشة ليلة فرح سعيدة، لا إلى مأتم بائس متشنج حزين؟! وعلى مائدة العشاء الفخمة المتقنة الغنية بأصناف المأكولات من كل لون وفن؛ كانت تتسرب إلى مسامعنا من قاعة النساء المجاورة نغمات موسيقية فرحة مزهوة يصاحبها صوت أنثوي رقيق جميل يصدح بأمنيات السعادة والهنا لما شرفتوا هنا! وبالسعادة والهنا يا مكمل نص دينك. قال رجل بجانبي يشاركني المائدة وهو يزدرد لقمة طائرة من يده إلى فمه بخفة وعجلة : الله يهدي هؤلاء النساء ؛ لو تريثوا قليلا في غنائهم وطقطقتهم إلى أن ننتهي من تناولنا طعامنا ونخرج!