لا أحد يُنكر أن قناة الجزيرة الإخبارية القطرية أول ما أنشئت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي استطاعت وبسرعة أن تستقطب المشاهد العربي، وأن تحتل قمة الإعلام العربي الأقوى تأثيراً والأفضل صدقية. والسبب الرئيس أن البيئة الإعلامية العربية كانت في الماضي، وحتى ما قبل حقبة القنوات الفضائية، بيئة محض (دعائية)، مباشرة، متكلسة، ومملة؛ لا تحظى وسائلها بأي قدر ولو قليل من الصدقية، ناهيك عن الجاذبية، وهذا ليس بسبب تقصير الإعلاميين آنذاك، وإنما لأن وسائل الإعلام وبالذات (العربية) منها كان يتحكم في مُنتجاتها الرقيب، فيسمح لمرور ما يريد، ويمنع ما يريد، وبالتالي فلا مرور إلا لمن وافقت السلطات السياسية على مروره؛ غير أن الرقيب (الجمركي) العربي أصيبت سلطاته وقوته ونفوذه بالفشل الذريع عندما دخلت التكنولوجيا الفضائية على الخط، فاكتفى فقط بالمقدور عليه ممن يطلبُ إذناً بالدخول، وهم قليل جداً مقارنة بالطوفان الذي يتدفق من المعلومات والأخبار والتحليل من خلال القنوات الفضائية والإنترنت. أول من اقتنص استثمار البيئة الإعلامية الجديدة، كان قناة (الجزيرة) الفضائية. الجزيرة دخلت وبقوة إلى مجال الإعلام، متخذة طرحاً جديداً أكثر حرفية، وبالتالي حياداً وصدقية (نسبية) مقارنة بالآخرين، فاستقطبت نسباً كبيرة من المتابعة لم تعرفها قط أية وسيلة عربية أخرى في تاريخ الإعلام العربي على الإطلاق، ولأنها السبّاقة، بقيت تتربع على قمة القنوات الإخبارية العربية، ولم تستطع القنوات الإخبارية العربية الأخرى التي أنشئت بعدها منافستها؛ وأصبحت أخبارها تحظى بقدر من القبول والصدقية لدى كل العرب داخل العالم العربي وخارجه، طبعاً لا يمكن إغفال دور الميزانيات الضخمة التي أمدت بها الحكومة القطرية قناتها الأولى (الجزيرة)، والتي كانت بمثابة الشريان الذي يمدها بالقوة والقدرة على المواكبة والاستمرار، فقد كانت لا تحفل بالإعلان، ولا يهمها الدخل، قدر ما يهمها أن تكون الأقوى، والأسرع للوصول إلى مسرح الحدث وتغطيته. وكان العاملون فيها محترفين، يعرفون أن (الصدقية) النسبية هي بضاعتهم الأهم، وإذا فقدوها فقدوا أهم ما تتميز به قناتهم. جاءت ثورات ما يُسمى الربيع العربي، أو ما بات يُعرف مؤخراً بمشروع (الشرق الأوسط الجديد)، فكان للجزيرة دور (محوري) - إذا لم يكن الدور الأهم - في إذكاء نيران ثوراتها والنفخ فيها، حتى بات كثيرون يذهبون الى (الجزم) بأن قناة الجزيرة ما أنشئت أساساً، ودُعمت، وصُرِف عليها بهذا القدر الذي لا يقف عند حدود، إلا لتنفيذ مشروع (الشرق الأوسط الجديد) التقسيمي، سيما وأنها كانت تتبنى خطاً منذ البداية يتماهى مع خط (الحركيين المتأسلمين) الذين كان لهم في توجيهها منذ أن أنشئت دور محوري لا تُخطئه العين، وعلى رأسهم الحركي الإخواني المعروف «يوسف القرضاوي» وثُلة من المتأخونين المسلمين من كافة الجنسيات العربية؛ وجماعة الإخوان هم من ورثوا في البداية السلطة في بلدان الثورات العربية. سقوط مشروع الإخوان المسلمين في مصر، وإفلاس مشروعهم في تونس، وتحوّل ثورة ليبيا إلى صراعات قبلية وفئوية لا تكاد تهدأ إلا لتثور من جديد، و(إقصاء الإخوان) من الائتلاف السوري الذي ينتظر أن يرث نظام الأسد، جعل أساطين قناة الجزيرة، يشعرون بالفعل أنهم فقدوا كل رهاناتهم، ومعها المليارات التي صُرفت على هذه الثورات؛ وأن ما كانوا يُخططون له، ذهب أدراج الرياح. وكأي مُفلس يفقد على طاولات (القمار) كل رهاناته، خرجت الجزيرة عن طورها، وليس فقط عن مهنيتها، فتحولت إلى وضع أشبه ما يكون بوضع وزير إعلام هتلر سيء الذكر (جوزيف قوبلز) عندما مُني المشروع النازي بالهزيمة؛ يتخبط في محاولة يائسة وبائسة ومضحكة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وهذا ما واكب تغطية قناة الجزيرة لسقوط الرئيس المصري المعزول محمد مرسي. هل تستطيع قناة الجزيرة العودة للمنافسة في سوق القنوات الإخبارية المؤثرة بعد سقوطها وسقوط رصانتها مؤخراً؟.. لا أعتقد، فيبدو أن الهدف الذي أنشئت من أجله في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تلاشى وانتهى في العقد الثاني من الألفية الثالثة؛ وإذا فشل الهدف فشل المشروع بكامله. إلى اللقاء