استقامة حياة الناس بالأمن والأمان مطلب كل الشرائع؛ ومبتغى كل العقلاء، لأن انتشار الخوف والذعر بين الناس سبب لكل جريمة؛ وغطاء لفعل كل بلية، والفوضى والخوف لا يرجى منهما تعمير للحياة. وإذا تخلف الأمن عن بلد فلا تسل عن فقره وعوزه؛ ولا تعجب من انتشار الفساد بين أفراده، وإن أردت الشاهد على ذلك فقلّب الطرف في البلاد التي انفرط فيها الأمن؛ ستجد كيف كانت وبماذا آلت إليه. إن المحافظة على الأمن واستقامة أمر الناس في السمع والطاعة لإمامهم من مقاصد شريعة الإسلام؛ ولذلك جاء الأمر كثيرا في نصوص الشريعة بالسمع والطاعة لأئمة المسلمين والنصح لهم؛ وحرمة الخروج عليهم، ومنابذة كل من يحاول تفريق الجماعة مهما بلغ من الصلاح في خاصة نفسه؛ يبين ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه: عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَتَكُونُ هَنَات وَهَنَات) الْهَنَات: جَمْع هَنَة، وَتُطْلَق عَلَى كُلّ شَيْء، وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا الْفِتَن وَالْأُمُور الْحَادِثَة. وقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّق أَمْر هَذِهِ الْأُمَّة وَهِيَ جَمِيع فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) فِيهِ الْأَمْر بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَام، أَوْ أَرَادَ تَفْرِيق كَلِمَة الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع شَرّه إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ كَانَ هَدَرًا، فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ )، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فَاقْتُلُوهُ) مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَنْدَفِع إِلَّا بِذَلِكَ. شرح النووي على مسلم (12/ 241). وإن من الوسائل التي ينتج عنها تفريق وحدة المسلمين على ولاتهم؛ تهييج العامة عليهم بذكر مثالبهم؛ والتنقص منهم؛ ومن أمانتهم، والدعوة على التجرؤ عليهم، وذلك كله وغيره كثير من أساليب التأليب؛ وباب لفتح شر عظيم، والعقد إذا انفرط فلا تسل عن مسارعة خروج الخرزات منه وشتاتها. وقد وعى الرعيل الأول ضرر ذلك؛ فلم يكن التهييج سبيلا من سبل الإنكار على ولاتهم، ولا التأليب عليهم طريقاً من طرق نصيحتهم، فقد أخرج البيهقي بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: « نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تَعْصُوهُمْ، وَاتَقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِلَى قَرِيبٍ». ورو ابن سعد في طبقاته الكبرى عن عبد الله بن عكيم قال: لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان، قال فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟ فقال: إني لأعد ذكر مساويه عونا على دمه. وتهييج الناس على ولاتهم بسبب ما يصدر منهم من ظلم وعدم إعطائهم حقوق رعيتهم أجدر بأن يدخل في الوعيد الشديد الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَاجِبَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ بِطَاعَتِهِمْ فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ لِلَّهِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمْ إلَّا لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَطَاعَهُمْ ؛ وَإِنْ مَنَعُوهُ عَصَاهُمْ : فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . مجموع الفتاوى (35/ 17) . ومما سبق يتبين أن التهييج على ولي الأمر من الصفات المذمومة التي لا يحمد بها المرء، وإنما هو باب فتنة يجب على المسلم أن يتخلى عنه وينفر منه، وذلك لما يترتب عليه من الشرور العظيمة التي أقلها انفراط عقد الأمن وفساد عيش الناس. - عضو الفريق العلمي في حملة السكينة