يتجدد الحديث من حين إلى حين عن عطلة آخر الأسبوع متى تكون؟. والناس مختلفون في رغباتهم: فريق يفضل البقاء على ما نحن عليه ولا يرى داعياً وجيهاً للتحوُّل، وفريق آخر يستحسن بشدّة أن تكون العطلة يومي السبت والأحد، وثالث يرجِّح بإصرار الجمعة والسبت. واختار مجلس الشورى المذهب الثالث، فأصدر مشورته بالموافقة عليه، وهي مشورة لها عندي كلّ التقدير والتبجيل، لكنّ ذلك ليس بمانع من النظر فيها ودراستها: واختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية: وسأستعين بالله وأعرض رؤيتي في هذا الخلاف آملاً أن أُهْدَى إلى الحقّ: اللهُمَّ اهدني لما اختُلِف فيه من الحقّ بإذنك. وأوّل ما أبدأ به البحث عن الأسباب الّتي تحمل على الرغبة المُلحّة في السعي الجادّ إلى تغيير عطلة طال عمرها ولم تَشِب وطالما ألفناها وسعدنا بها، وبحسب استظهاري لما سمعته وقرأته يرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب: السبب الأوّل: المملكة العربية السعودية مرتبطة دوليًّا في معاملاتها المالية والإداريّة بدول العالم شرقًا وغربًا، والتفاوت في العطلتين يؤدّي إلى التأخير بل إلى فوات بعض المصالح. وهذا إن كان حقًا -وما أظنّه كذلك- فتوحيد العطلة لا يتلافاه لما بيننا وبينهم من اختلاف في التوقيت الّذي يصل في بعض الأحيان إلى سبع ساعات من الشرق ومن الغرب. ومع هذا الاختلاف فلم نلحظ مشكلات تعوق سير تبادل المعاملات، وكان التواصل يجري عن طريق الوسائل القديمة الّتي تعرفونها ولا تخفى عليكم مشكلاتها: الهاتف السلكيّ وغير السلكيّ والبرقيّة والتلكس ونحوها. أمّا اليوم فقد صار العالم واحدًا بفضل الله ثمّ هذه الوسائل الفائقة في آثارها وخِدْماتها حتّى قرّبت البعيد، فالمحذور الّذي يحتجّون به أصبح مأمونًا، فما فائدة التغيير؟. ومع هذا فقد عرفت المملكة التعامل الدوليّ في علاقاتها المالية والإدارية منذُ ما يزيد على ثمانين عامًا ولم يعرض لها مشكلات ظاهرة نشأ عنها خلل أدى إلى ما نخافه: لكلّ مشكلة حلّها. وأيًّا كان فيوم الجمعة له خصائصه الدينيّة والاجتماعيّة فينبغي أن يكون خارج النظر لما في تحويله إلى يوم عمل من خروج ضارّ على تلكم الخصائص، فإذا كان الأمر كذلك -وهو إن شاء الله كذلك- فيوم الأحد مستبعد أيضًا، فلو اتّخذناه عُطلة مع الجُمُعة -ولا تزيد العطلة على يومين- لأصبحت العطلة مفرّقة، وهذا أمر غير عمليّ. يبقى الخيار بين الخميس والسبت. السبب الثاني: ناشئ عن الفطرة الّتي جُبِل عليها البشر، ألا هي سأم الحياة الراكدة الثابتة الدائمة وإن كانت حياة سعيدة، يملّون العيش الدائم ولو كان خير عيش «لن نصبر على طعام واحد» مع أنّ هذا الطعام المنَّ والسلوى «ادعُ لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها». يريدون التغيير ولو كان ثمنه باهظًا وتبعاته وعواقبه لا تُرضَى. وما دامت هذه ِجبِلّتنا وطبيعتنا فلا اعتراض وليس لنا إلا التسليم «لا تبديل لخلق الله» الوّجهة الرشيدة: لا نسدّ سبيل التغيير ولا نفتحها بلا ضابط، بل علينا أن نوجِّه هذه الطبيعة الوجهة الصالحة الحميدة. فلا تغيير إذا لم يكن إلى الأصلح، وعلينا أن نتدبّر وننظر في عواقب التغيير، فإن كانت خيرًا من الحاضر تحوّلنا ولا نبالي. أجل التغيير مطلوب، لكن ليس لكلّ شيء. من العادات ما يجب الإصرار على بقائه والمحافظة عليه وعدم التفريط فيه ولو طال أمده كعطلة الجمعة الّتي ألحق بها الخميس منذُ سنين، ليس لنا أن نلغي عطلة العيد ولا أن نقف عن العمل في أعياد ذوي الديانات غير الإسلاميّة مع أنّ المشكلة المدّعاة واحدة. لو فكّرنا في حياتنا الاجتماعيّة لوجدنا الكثير من العادات الّتي يحسن بنا أن نتخلّى عنها فلسنا عبيدًا للعادة ولا يجوز أن نكون كذلك: هذه الأخشاب الّتي نحرقها في المجالس والمساجد ونسمّيها البخور أو العود - وليست من العود في شيء - إنما هي دُخانٌ يملأ الصدور ويتلف الرئتين، نعم: ترك هذه العادة أمر محمود مرغوب فيه، والمواطن الواعي ينتظر من الجهات الصحيّة أن تعلن موقفها من هذه العادة، وقس عليها غيرها: الإسراف في الولائم بعامّة وفي حفلات الأعراس بخاصّة،المبالغة الزائدة الّتي تدخل في باب الإسراف في ذبح الحيوانات يوم عيد الأضحى ومطالبة موظّفي الجوازات المراجعين بملء النموذج وإحضار الصور الشخصية والمستندات المصوّرة مع أنّ جميع المعلومات محفوظة بين يديهم في الحاسب هذه عادة يجب نبذها وأئمّة المساجد المصرين على عدم الجهر ببسملة سورة الفاتحة في الصلاة الجهريّة مع علمهم أنّها آية من هذه السورة رقمها (1) ركونًا إلى ما تعلّموه في شبابهم وما عرفوه بعدُ من الخلاف في ذلك عادة ينبغي التخلّي عنها، كيف وقد حسم الخلاف في مصاحفنا،إصرار بعض الأئمّة على الصلاة بمكبّر الصوت ولو كان المسجد صغيراً وعدد المصلّين لا يزيد على الصفّ الواحد. لكن إذا كان التغيير معارضًا لمصالح شرعيّة أو عرفيّة أو لا فائدة ترجى من ورائه فالتغيير مرفوض. السبب الثالث: عقدة الغالب والمغلوب أو القويّ والضعيف، وهذا سبب نفسيّ اجتماعيّ، وعلاجه متعسِّر وليس متعذِّرًا ؛ ذلك لأنّ الثاني ينظر إلى الأوّل نظرة إعجاب ويتمنّى أنْ يكون مثله في كلّ شيء: إمّا للإعجاب المجرّد بلا تمييز ولا تفكير معتقدًا في دخيلة نفسه أنّ كل ّما يرى عند غالبه صحيح عليه أن يعمل به. وإمّا لأنّه يرى أنّ الوصول إلى ما وصل إليه غالبه لا يتحقّق إلا بمحاكاته ومتابعته. وهذه الظاهرة بادية بصورة ماثلة للعيان لا تخفى ولا تُنكر: نستعمل اللغة الأجنبية في مواطن لا تستدعيها، نذيِّل مكاتباتنا بالتأريخ الميلاديّ مخالفين لما أكّده نظام الحكم الأساس، ولا منكِر لذلك كأنه أمر مسلَّم به. ومظاهر أخرى لا تسرّ العاقل: نتشبَّه بهم في ما لا ينفع ولا نتابعهم في ما ينفع: الأسواق عندنا و(البقالات) والمطاعم وقصور الأفراح تظلّ ساهرة حتى منتصف الليل بل إلى آخره. الحديث عن هذا النوع من المتابعات لا يكاد ينتهي، لنعد إلى الكلام عن المشكلة، هي في نظري ليست مشكلة، إنما الأسباب الّتي ذكرتها هي الّتي صوّرتها وكأنّها مشكلة معضلة، فقد تبيّن مما بسطته في نقاشها وتشخيصها أنّ الحلّ قريب ممكن: إمّا بالبقاء على الحالة الراهنة، وإما أن تعمل البنوك وأمثالها من الجهات المالية والتجارية الّتي لها علاقات بنظائرها في خارج المملكة يوم الخميس، وبذلك نصل إلى الحلّ الوسط. هذا ما أرى، ولا أُزكّي نفسي، بل أقول: ما أذهب إليه صواب يحتمل الخطأ وما يذهب إليه غيري خطأ يحتمل الصواب.