إعلان مبايعة جبهة النصرة السورية أيمن الظواهري زعيم القاعدة، الذي تناقلته وسائل الإعلام يوم الأربعاء الماضي، يحمل دلالات كثيرة، ويثير أسئلة لن يجيب عنها بصورة قطعية إلا تطور الأحداث دراماتيكياً خلال الأيام القادمة، ولكن هذا الإعلان يضعنا أمام الاحتمالات الآتية: - أن الإعلان الذي بُثَّ عبر محطات تلفازية عديدة، وتناقلته وكالات أنباء عالمية، ليس صحيحاً؛ بل هو مختلق ومفبرك ومدعى؛ فيجب حينئذ على جبهة النصرة نفيه والتنصل منه، وتبيان جرم مرتكب تأليفه وبثه بهدف ضرب الثورة السورية وإفشالها وإنقاذ بشار الأسد من السقوط. وبعد نفي البيان إن كان مكذوباً لا حجة لمن يتسقط الأسباب الواهية لوأد ثورة الشعب السوري وإهدار تضحياته في سبيل الحرية والكرامة والدولة المدنية المتحضرة. - أن الإعلان صحيح؛ إذ لم يصدر إعلان من جبهة النصرة بنفيه إلى وقت كتابة هذا المقال؛ فيترتب على عدم نفيه تحليل أبعاده على النحو الآتي: - أن أجهزة الاستخبارات السورية والإيرانية اجتهدتا معاً بعد أن تبيّن مدى إصرار الشعب السوري على إسقاط نظام بشار الأسد الدموي، وبعد انتصارات متوالية للثورة السورية بكل فصائلها من الجيش السوري الحر إلى جبهة النصرة، فكلهم في الهم شرق، هو إسقاط النظام، وبعد أن قرع الثوار أبواب دمشق وحاصروها من جهاتها الأربع، بل دخلوا وتوغلوا في أحياء كثيرة منها حتى سقط الرمي في محيط قصر الرئاسة، وجد جهاز الاستخبارات الإيراني نفسه مضطراً إلى استخدام الورقة الأخيرة التي يقبض عليها منذ سنوات طويلة من يوم أن كون أسامة بن لادن والظواهري ما أسمياه «القاعدة الإسلامية لجهاد الكفار والصليبيين»، فاحتضنت إيران واستمالت بعض أفرادها، وحمت قياديين بارزين فيها، وخبأتهم في أماكن سرية في طهران، وهيأت لهم السبل لخلق جبهات توتر في المناطق المستهدفة بالأطماع الإيرانية باسم الجهاد، ومدت حبل الوصل بتخطيط استراتيجي عميق أيضاً مع جماعة الإخوان المسلمين؛ فشكلت من التيارين: الجهادي المتطرف المتمثل في «القاعدة»، والإخواني البراجماتي المنتظر فرصة القفز والوصول إلى السلطة السياسية في مواطن كثيرة من العالم العربي تحت ما عرف باسم مصطلح «الإسلام السياسي» القابل للتنازلات والتحالفات المقبول منها وغير المقبول للوصول إلى أهدافه.. شكّلت إيران من هذين التيارين ذراعين قويتين، توظفهما في الوقت المناسب، إن حتم الأمر عنفاً مادياً تخريبياً، أو عنفاً كلامياً مثيراً الفوضى والبلبلة! - ومن هنا أدخلت عملاءها إلى جبهات القتال السورية، وتغلغلوا حتى وصلوا إلى الاقتراب من الشخصيات القيادية في جبهة النصرة، وأقنعوهم بضرورة توحيد الجهود القتالية، وبخاصة مع ذوي الاتجاه الإسلامي، ولكن الفصائل الإسلامية المقاتلة على الأرض السورية معتدلة وغير متطرفة في الأعم الأغلب، ولن يفيد هذا التوحد - هكذا رأى الفكر الاستخباراتي الإيراني والسوري - بينما إذا انضمت القاعدة إلى المقاتلين السوريين توجه العالم كله الذي عانى من جرائم القاعدة إلى ضرب هذا التجمع بين الفصائل المقاتلة التي تبنت الفكر القاعدي وقضت عليه قضاء مبرماً؛ وبذلك ستكفي أمريكا ودول الغرب - وكلها متضررة من القاعدة - ستكفي الأسد مؤونة قتال هذه الفصائل الثائرة، وسيجد وقتاً يتنفس فيه، ويعيد ترتيب قواته، ويوالي تتبع بقية من بقي من الجيش الحر للقضاء عليهم؛ وبهذا - كما هو تخطيط الاستخبارات - يصمد النظام من جديد، وتبقى إيران في سوريا ولبنان مطوقة المنطقة العربية من الشمال، كما هي تطوقها من الشرق بالعراق، وكما هي تطوقها من الجنوب بتبني الحوثيين، وكما سعت إلى تطويقها من الغرب بالتحالف مع جماعة الإخوان وشراء مصر بمبلغ ثمانية مليارات دولار! لقد نفى أبو محمد الجولاني زعيم الجبهة إعلاناً صدر في الآونة الأخيرة بأنها - أي جبهة النصرة - ودولة العراق الإسلامية فرع تنظيم القاعدة في العراق توحدتا تحت اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولكنه - وفي حالة تشبه التنويم تحت تأثير جهد استخباراتي محموم، أو بغباء سياسي لا نظير له - يعلن «بيعة من أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام يجددها لشيخ الجهاد الشيخ أيمن الظواهري فإننا نبايع على السمع والطاعة». هكذا انتهت صياغة هذا البيان الركيك! وهو - والحق - إعلان ليس عن بيعة لرجل مختبئ مطارَد من أقوى دولة في العالم؛ بل إعلان رسمي - مع الأسف - عن بدء انحسار مد انتصارات الثورة الشعبية السورية الظافرة، وانتظار وقت لن يطول كثيراً يتخذ فيه خصوم «القاعدة» موقفاً لا أشك أبداً أنه سيكون: القضاء المبرم على منظمة القاعدة الإرهابية في سوريا، ودرء خطرها عن العالم، وتفويت فرصة وصولها إلى السلطة بعد انهيار نظام الأسد أو وصول الأسلحة الكيماوية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل إلى عناصرها، وهو ما سيشكّل خطراً على إسرائيل وعلى جيران سوريا والمصالح الغربية في المنطقة إن تمكن التنظيم من الحصول على تلك الأسلحة المدمرة بعد سقوط نظام بشار الأسد - كما يرى الغرب - وعندها تقوم أمريكا وحلفاؤها بتدمير كل المواقع التي تتمترس فيها عناصر القاعدة، وهي - والحق - أماكن لا يمكن فرزها بدقة، وستدمر معها عناصر متعددة من الفصائل القتالية المعتدلة؛ لأن الساحة القتالية السورية خليط من جبهات قتالية متعددة متداخلة. وهذه الحملة الغربية المتوقعة على «القاعدة» في سوريا ستمد في أجل بقاء النظام النصيري الدموي في السلطة؛ ليمارس مزيداً من جرائمه واستبداده، وليؤدي دوره في حماية جارته إسرائيل، وليظل أيضاً مركز انطلاق وعمل للأطماع الفارسية الإيرانية في المنطقة العربية كشريك قوي ووحيد لإسرائيل في الهيمنة على المنطقة العربية. فهل خدمت هذه البيعة للقاعدة وزعيمها المختبئ المطارَد أيمن الظواهري - إن صحت - وفق هذا السيناريو المتوقع قضية الشعب السوري والأمة العربية والإسلامية أم أن الغباء السياسي حين يستحكم يقتل أول ما يقتل صاحبه؟! إن جبهة النصرة بتحالفها مع القاعدة وفق بيانها المعلن - إن لم يتم نفيه - تمد في أجل نظام بشار الأسد، أو أنها تحميه بالفعل من السقوط؛ فقد قدمت له أجمل هدية يتمناها حين انطلت على الجبهة أحابيل الممثلين بإعلان الجهاد من عملاء المخابرات الإيرانية والسورية؛ فهنيئاً للأسد سنوات أخرى من التمتع بالاستبداد على جثث وركام ما كان يسمى ب»سوريا»! [email protected] mALowein@