من خلال دراستنا للأنواع الأدبية والسردية منها على وجه الخصوص، اتضح لنا أن هناك فرقاً جانبياً يتعلق بالثقافة نفسها، التي انطلق منها الروائي في إبداع عمل روائي تاريخي، فالرواية الغربية انطلقت من التاريخ الأوروبي الحر، فالروائي الغربي - بصفة عامة- يصور شخصياته على أنها شخصيات نبيلة، هدفها النصر للذات، وليس العدوانية، فصورة صلاح الدين عند ولتر سكوت تختلف عن صورته عند المؤرخين، بينما صورته عند فرح أنطون على أنه مجاهد أخرج الصليبيين من القدس بالقوة، وكذلك صورة البطل عند جرجي زيدان صورة رومانسية متحفظة، وغير ذلك من الفروق التي يعود أصلها إلى الثقافة العربية، فالأوروبيون أعادوا صياغة التاريخ، كما ورد في نصوصه الأصلية، في صورة لأبطاله من الداخل بعكس ما يصوره المؤرخ من الخارج بعبارات تناسب الموقف السياسي أو الاجتماعي، (16) وقد انطلقت الرواية التاريخية العربية من الموروث التاريخي العربي، فإذا أخذنا رواية ولتر سكوت (التعويذة) مثالاً مقارناً برواية شبيهة لها عند فرح أنطون (صلاح الدين وأورشليم) نجد تبايناً في الصورة الفنية التاريخية، فصلاح الدين عند فرح أنطون صورة مقاتل أخرج الصليبيين من القدس بالقوة، وصورة صلاح الدين عند سكوت صورة البطل المثقف الذي صدرت بلاده الحكمة والعلم للعالم، حيث عقد صلحاً مع الملك (ريتشارد قلب الأسد) على ألا يدخل الصليبيون القدس، صورتان متباينتان مصدر كل منهما ثقافة خاصة أنطلق الروائي منها. وأثيرت قضية الرواية التاريخية العربية، كيف ظهرت، وقد عرفنا من قبل ضرورة ظهورها بما لمسه الكتاب من حاجة المتلقي للتاريخ في صورة رواية سلسة ممتعة، تختلف عما رواه المؤرخون بأساليبهم الجافة، فضلاً عن الحقائق الموجهة، من فريق أرخ لحقبة من الزمن، فقد رأى بعض الباحثين أنها تقليد للرواية الغربية التي ذكرناها في بداية هذا البحث، وآخر يرى أنها ذلك الامتداد للرواية العربية التقليدية التي ذكرنا أنها من مصدر الفعل (روى) أي نقل، وفريق ثالث يرى أنها موجودة، لكن استفاد الروائيون من التقنية التي ظهرت في أوروبا، واستفاد منها في تقنية الرواية بكل اتجاهاتها، ومهما يكن من أمر فكل رواية- غربية أو عربية- استمدت مادتها من تاريخها، لكني أوافق الرأي الثالث، فقد استفاد فرح أنطون وجرجي زيدان وعلي الجارم وعلي أحمد باكثير، وغيرهم من تقنية الرواية، في بناء رواية تاريخية حديثة، من مادة تراثية شعبية وصيحة، فقد ساهم فيها عدد من الكتاب معظمهم من الصحافيين الشوام المهاجرين إلى مصر هرباً من الجور والظلم الذي تلقوه من المحتلين الفرنسيين ومن قبلهم العثمانيون، فوجدوا في مصر ملاذاً آمناً لنشر أفكارهم، وأسسوا فيها الصحافة، مثل الأهرام، التي أسسها آل تقلا، ومن ذكرنا آنفاً، مثل فرح أنطون، ويعقوب صروف، ومن حذا حذوهما من الكتاب والشعراء المصريين والعرب الذين هاجروا إلى مصر في هذه الحقبة؛ ووجد هذا الجيل في الرواية التاريخية مجالاً لنشر أفكاره في وجه هجمات التغريب والتتريك ومحاولات القضاء على الشخصية العربية، حتى من الذين يدعون الأسلاموييين، الذين لا يعترفون إلا بالإسلام بدون العروبة، فكان مشروع آل البستاني، في إحياء اللغة العربية بالصحافة والقواميس، ولا ينسى أحد دور المعلم (بطرس البستاني) ومعجمه المشهور، وليس هذا مجالنا الآن للحديث عنه، لكن الشيء بالشيء يذكر، لقد وجد هذا الجيل في ذلك الوقت أن الشباب بحاجة إلى معرفة تاريخهم العربي الإسلامي المجيد في وجه التغريب ودعاته من أبناء العرب الذين فتنوا في الحضارة الغربيةالجديدة على حساب التاريخ العربي (17) ووجدوا أن الصحافة هي المنفذ الوحيد لنشر هذا التاريخ على شكل يختلف عن أساليب المؤرخين العقيمة، وكان اهتمامهم منصباً على اللغة العربية من خلال التاريخ، فصاغوا حكاياته وأحداثه في قالب روائي بسيط محبب للقارئ ومشوق بما أدخلوه على الشخصية التاريخية من لقطات رومانسية كسرت رتابة السرد التاريخي الممل القائم على البطل الواحد، حيث دخل على البطل بطل آخر من صنع الروائي، وأشخاص آخرون يقومون بأدوار متعددة، ومواقف طريفة، نشروا بداياتها في صحفهم وبعضها كان على المسرح، فالرواية التاريخية العربية ظهرت بعد الرواية الغربية بعدد من العقود، على أيدي مجموعة من الكتاب ذكرنا بعضهم في الصفحات الماضية، كان أولئك من رواد الثقافة والتنوير في العالم العربي، الذين وجدوا في التاريخ مادة دسمة تنقذ الفكر العربي من هجمات التغريب والتغييب، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى مسايرة لهذا الفن، وربط الماضي بالحاضر من خلال ثقافة عربية إسلامية، وكان من هذا الجيل من أحب اللغة العربية ووجد فيها السبيل إلى تأصيل ثقافة حديثة على التراث العربي المجيد، فكانت محاولات سليم البستاني (1848-1884) التي نشرها في جريدته (الجنان) ثم أصدرها في كتب مطبوعة فيما بعد، محاولات يثبت من خلالها القيمة اتاريخية للشخصية العربية، وكان متنوعاً في إنتاجه بين الاجتماع والتاريخ، خاصة في روايته الشهيرة (الهيام في جنان الشام)، التي أصدرها عام 1871، لكن تركيزه على الرواية التاريخية يوجد في روايته (بدور) التي صدرت في عام 1872، حول فتاة أحبت البطل الأموي عبد الرحمن الداخل، إضافة إلى رواياته الممسرحة، مثل (قيس وليلى، وزنوبيا ملكة تدمر) وغيرها. وللحديث بقية في الحلقة القادمة. الرياض