بعد أربع سنوات؛ أي في عام 1439ه سنحتفل - بمشيئة الله تعالى - بمرور ثلاثة قرون (300) على قيام الدولة السعودية؛ حيث تولى الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية ليبدأ منها نقطة الانطلاق لتكوين الدولة السعودية الأولى من عام 1139ه إلى عام 1233ه ونمت وتوسعت إلى أن أصبحت دولة ممتدة ذات نفوذ قوي من حدود الشام إلى آخر سواحل الجزيرة العربية من الجنوب، ومن الكوفة والبصرة في العراق إلى بادية سيناء في عهد الأئمة عبد العزيز بن محمد والعصر الذهبي لابنه سعود ثم عبد الله بن سعود الذي سقطت الدولة في عهده بغزو الأتراك والمصريين وتآمرهما على الدولة السعودية وارتكابهما الجرائم الشنيعة من القتل والاغتصاب والتعذيب والنهب والسلب مما دونه التاريخ في صفحاته السوداء، ثم في المرحلة الثانية من عام 1240ه إلى 1306ه، ثم في مرحلتها الثالثة من عام 1319ه إلى ما شاء الله لها من عمر طويل ممتد بإذن الله. لقد حقق الإمام محمد بن سعود الحلم الثاني لأبناء الجزيرة العربية في قيام دولة بمعناها السياسي والعسكري والديني؛ فبعد أن انتقلت عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من المدينة إلى الكوفة عام 36ه بعد معركة الجمل واصلت الدولة الإسلامية التنقل كخلافة بعيدا عن جزيرة العرب من الكوفة إلى دمشق إلى بغداد إلى القاهرة إلى قرطبة إلى استانبول، ثم عادت أخيرا إلى الدرعية في عمق جزيرة العرب حين قامت الدولة السعودية على شكل إمارة صغيرة في الدرعية عام 1139ه ثم دولة عام 1157ه لتكون امتدادا للدولة الإسلامية الأولى التي هاجرت عاصمتها من المدينةالمنورة ولم تعد إلى أية مدينة في جزيرة العرب إلا بعد أكثر من ألف ومائة عام من الإهمال والصد واستنزاف قدرات أبنائها، وتهميشهم، واتخاذهم خزانا ووقودا بشريا مستمرا لا ينقطع لإمداد عواصم الخلافة بالمجاهدين الأشداء من قبائل العرب الشمالية العدنانية والجنوبية القحطانية والذين انتشروا في أنحاء الديار المفتوحة شرقا وغربا واستوطنوا تلك الديار ولم يعودوا إلى موطنهم الأول في الجزيرة. لقد سجل صبر وصمود وثبات أبناء الجزيرة العربية إبان أزمة التحدي الأولى بقيادة الأئمة من آل سعود بدءا من عبد الله بن سعود وانتهاء بفيصل بن تركي في مواجهة بطش الخلافة التركية ووكيلها في مصر محمد علي باشا سجلا مضيئا من الشجاعة والإصرار على الحق والعزيمة على المقاومة، على الرغم من تفوق الغزاة وشدة بطشهم، واستعدادهم بالمدافع والأموال والمرتزقة من مقاتلي الانكشاريين والنوبة والسودان وغيرهم، وخلو أيدي أبناء الجزيرة من سلاح قوي إلا من الإيمان بالله والدفاع عن الدين والعرض والأرض، ومقاومة الاستبداد التركي ووكيله المصري الذي خشي من امتداد الدولة وتوسعها على نفوذ الخلافة التركية التي همشت العرب واضطهدتهم وسلبتهم خيراتهم وجعلت عليهم من الولاة والسلاطين من لا يتحدث لغتهم ولا ينتمي إلى عرقهم. كانت أزمة امتدت ستة وعشرين عاما عانت فيها الجزيرة العربية صنوف الاضطهاد والفوضى والمجاعات والاقتتال بين القبائل وسيطرة أمراء الجيش المصري على المدن الرئيسية في كل أنحاء الجزيرة؛ ولكن ما يمكن أن نخرج به من تلك المرحلة الدامية أن العداء لأبناء الجزيرة العربية لم يمنعه ادعاء الخلافة التركية في استانبول رفع علم الدين تستظل به وتستجلب به عواطف الناس؛ بل إن حربها على الدولة السعودية كان بدافع الخوف من كشف زيف الهيمنة التركية المطلقة على العالم العربي باسم الإسلام على الرغم من إهماله واستعباد أهله والبطش بهم وتعليق رؤوس الثائرين منهم على المشانق واستخدام وسائل التجسس والتهم الجاهزة لأي عربي يبدي شيئا من التذمر تجاه أساليب الغطرسة التركية. إن استنبات مفهوم الدولة الذي نهض به كمشروع حضاري الإمام المؤسس محمد بن سعود - رحمه الله - كان من عمق الحاجة إلى وجود للإنسان في الجزيرة بعد قرون من الشتات والتهميش والسخرة والضياع، لم تنعم فيها جزيرة العرب رغم أنها مهد الدولة الإسلامية الأولى ومنطلق الرسالة الخالدة بنعيم فيء الدولة وخيراتها التي نأت عنها بعيدا إلى ديار العرب الأخرى، ثم إلى ديار الترك؛ ولذا كان صمود الدولة السعودية عظيما وتاريخيا حين واجهت الطغيان التركي، ثم كانت الحاجة إلى الأمن والركون إلى مفهوم الدولة بعد ضياعها عام 1306ه بسبب النزاعات والاختلاف في الرأي قويا مما هيأ الفرصة لنجاح تكرار إعادة الدولة من جديد في مرحلتها الثالثة بقيادة الشاب العبقري المغامر عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - حين عقد العزم على استعادة الدولة بعد ثلاث عشرة سنة من الشتات والضياع؛ فسجل في عام 1319ه تاريخاً جديداً مشرقاً وبهياً لأبناء الجزيرة العربية. اختبارات صعبة مرت بها هذه الدولة، لو واجهتها دولة أخرى لقضت عليها إلى الأبد، ولكن ثمة أسباب لابد من التنبه إلى أهميتها في سر صمود الدولة السعودية في وجه الأعاصير والعواصف العاتية، لعل منها إرادة الله أولا، ثم ما نهضت عليه من إعلاء لكلمة الله وتصحيح مفهوم العقيدة النقية الخالصة، ثم الحكمة والخبرة وصفات القيادة العالية عند أئمة وملوك هذه الدولة المباركة. في الجزء الثاني نقف عند أبرز التحديات الصعبة التي تواجهها الدولة الآن. [email protected] mALowein@