حاورها في فيينا - نائب رئيس التحرير فهد العجلان: كثير ممن يحلمون بخوض غمار تجربة الدراسات العليا يعتقدون أن الأمر يتوقف على درجة اختبار أو معدل تراكمي حققه الطالب أو الطالبة خلال سنوات الدراسة.. غير أن العارفين بكنه البحث العلمي يدركون أن شخصية الباحث أو الباحثة، إضافة إلى القدرة العلمية، هي ما يصنع الفرق!.. في فيينا التقيتها على طاولة الغداء، على هامش فعاليات افتتاح مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات. سيدة هادئة ورصينة، لا تبدي ابتسامتها أثناء الحديث الموافقة أو المخالفة بقدر القناعة بحقك في استمرار الحوار.. تحدثت إليّ عن تجربتها البحثية في كتابها «الإسلام على الطريقة الوهابية: من مرحلة الإحياء والإصلاح إلى مرحلة الجهاد العالمي»، واستزدت منها حول بدايات فكرة البحث ومسيرته ونتائجه؛ فألفيتها الشخصية البحثية الصلبة التي تشتغل بالأسئلة أكثر من الركون إلى الإجابة.. إنها الباحثة الأمريكية وأستاذة الأديان المقارنة البروفيسورة في كلية بوسطن بالولاياتالمتحدةالأمريكية ناتانا جي ديلونج باس.. فإلى الحوار: * بدأتِ فكرة بحثك حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وارتفاع الأصوات في أمريكا وخارجها، التي استغلت أجواء الشحن العاطفي لتؤجج ضد فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب دون أدلة من أطروحاته, كيف بدأتِ فكرة بحثك؟ وما النتائج التي توصلتِ إليها؟ - بدأت فكرة بحثي، الذي صدر باللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان (الإسلام على الطريقة الوهابية: من مرحلة الإحياء والإصلاح إلى مرحلة الجهاد العالمي)، تتبلور لدي في عام 1993م، عندما كنت أتابع دراستي لنيل درجة الماجستير بمركز جامعة جورج تاون للدراسات العربية المعاصرة. كان الفضول ينتابني في ذلك الوقت للتعرف على الأصولية الإسلامية بصفة عامة؛ لما لاحظته من شيوع الكثير من الأقاويل التي كانت تفتقر إلى الدليل العلمي حول العديد من الحركات الإسلامية، ومنها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومن أوائل الكتب التي قرأتها في ذلك الوقت ترجمة إلى اللغة الإنجليزية كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. كان هذا الكتاب، الذي قرأته ودرسته أثناء حضوري دورة دراسية عن الحركات الإسلامية المعاصرة، هو الكتاب الوحيد الذي توافر لدي حينها عن دعوة الشيخ؛ ولذلك لم يكن لدي فكرة واضحة عنه سوى أن بعضهم كان يصفه بأنه مارتن لوثر الإسلام. ولأن والدي كان منتمياً للحركة اللوثرية فقد وقر في نفسي شعور بأن هذه الصفة التي أطلقت على الشيخ كانت مدحاً له وليس قدحاً. كل ذلك أثار في نفسي الفضول للتعرف على المبادئ الأساسية لدعوة هذا الشيخ من مؤلفاته هو بدلاً من الاعتماد على المعلومات المقتضبة التي كانت متوافرة لدينا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية في الغرب. وقادني هذا الفضول إلى البحث عن مؤلفات الشيخ، ورغم فشلي في العثور على أي منها في الولاياتالمتحدة قررت المضي قدماً في تنفيذ فكرتي بأن يكون هذا الموضوع هو موضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراه؛ فهو موضوع لم يسبق التطرق إليه في الدوائر الأكاديمية في الولاياتالمتحدة، ومن شأن مثل هذا البحث إعطاء فكرة موضوعية عن دعوة هذا الشيخ، عوضاً عن الأفكار المغلوطة التي كانت سائدة في الغرب. * ما المعايير التي استندتِ إليها في الخروج بنص دقيق وفقاً لمصادر البحث في التاريخ الإسلامي؟ - تطلب البحث عن أستاذ مناسب يوافق على الإشراف على هذه الرسالة ثلاث سنوات كاملة؛ إذ إن كل من اتصلت به كان يحاول إثنائي عن الموضوع الذي لم يكن موضع اهتمام يُذكر في الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت. ولكن بحثي قادني إلى البروفيسور جون أسبستو والبروفيسور جون فول، اللذين أبديا ترحيباً كبيراً بهذا الموضوع ذي الصلة بالمملكة العربية السعودية. وكان لهذين الأستاذين دور كبير في إنجاح مهمتي لاستكمال هذه الدراسة، بما قدماه لي من عون أكاديمي ومالي، وما بذلاه من جهد لتوثيق صلتي بصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، الذي وفَّر لي المراجع المهمة حول موضوع البحث. وبدأت بحثي في عام 1996م بقراءة وترجمة العديد من أعمال الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى اللغة الإنجليزية؛ حيث إن الكتاب الوحيد الذي كان متوافراً باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت كان كتاب التوحيد. * يقال دائماً إن الباحث يتعلم في سنوات بحثه من التجارب أضعاف نتائج البحث نفسه.. ليتك تحدثيننا عن خفايا رحلتك البحثية وما تمخض عنها وصولاً إلى المرحلة النهائية في إعداده؟ - في أثناء انشغالي بأعمال البحث والترجمة وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت ابنتي حينها في الثالثة من عمرها، بينما لم يتجاوز عمر ابني الشهرين. وعندما التقيت البروفيسور جون أسبستو بعد هذه الأحداث مباشرة أوضح لي أن الوقت قد حان فعلاً لإنجاز الرسالة عاجلاً؛ فقد لفتت تلك الأحداث الأنظار إلى المملكة العربية السعودية نظراً لمشاركة بعض السعوديين فيها، وكان من رأيه أن موضوع البحث سوف يجيب عن العديد من الأسئلة التي كانت تدور في ذلك الحين. كانت الدوائر ذات الصلة في الولاياتالمتحدة تريد التعرف على جذور الدعوة الوهابية التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وكيف تطورت بمرور الوقت، وهل هذه الدعوة تمثل نمط التدين في المملكة العربية السعودية، وغيرها من الأسئلة التي كانت تدور في الأوساط الإعلامية والسياسية والأكاديمية في الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت؛ ولذلك بدأت فوراً الإعداد للبحث، وفرغت منه خلال عام واحد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. * إلى أي مدى بلغت حدة التصور الأمريكي المغلوط عن الإسلام عموماً، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خصوصاً، ولاسيما مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ - كانت المعلومات التي تستند إليها الدوائر المهتمة بالأصولية الإسلامية في الولاياتالمتحدة، وبأفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب بصفة خاصة، في سعيها لتحليل هذه الأفكار ودحضها، ضئيلة جداً. وكان الاعتقاد السائد أن أفكار الشيخ تمثل خطورة على الأمن الأمريكي؛ ويجب محاربتها بشتى الوسائل، ولكن هذه الدوائر لم تكن تملك الأدلة الكافية التي تعينها على شرح هذه الأفكار والتدليل على خطورتها للرأي العام. وقد رأيت أن أنأى بنفسي عن هذا الانطباع السيئ عن دعوة الشيخ، وأن أتعمق في كتاباته؛ لكي أتعرف على نهجه في التفكير، وكيفية تناوله قضايا عصره؛ ذلك أني وجدتُ أن الكثير من المفاهيم المغلوطة عن الإسلام كما طرحه الشيخ غير موجودة في كتاباته؛ الأمر الذي يؤكد بدوره أن ما استتبع ذلك من انطباع سيئ عن المملكة العربية السعودية لا مبرر له؛ فالكثيرون ممن تناولوا تعاليم الشيخ يدعون أنه كان حرفياً في استنباطه لأفكاره من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وهذا غير صحيح؛ لأن الشيخ لم يكن يهتم بالمعاني الظاهرية للنصوص القرآنية والنبوية بقدر ما كان يهمه البحث عن الحكمة التي تستهدفها هذه النصوص. وكان من رأيه أن الأحاديث النبوية لا يمكن أن تتعارض مع النصوص القرآنية، وبناء على ذلك كان يعتقد أن البحث ينبغي أن ينصب على المقاصد التي ترمي إليها الأحاديث النبوية وتفسير هذه المقاصد بما يتوافق مع مقاصد النصوص القرآنية. ولم يكن الشيخ أيضاً ناقلاً حرفياً لآراء ابن تيمية كما يقول البعض، بل كان يقرأ لابن تيمية كما كان يقرأ لغيره من الفقهاء والعلماء، ومن ثم يستنبط اجتهاداته الخاصة. ومن خلال بحثي أيضاً اكتشفت أن الشيخ غير متحيز ضد المرأة، وأن ما يُروَّج ضده في هذا المجال غير صحيح. * من وجهة نظرك، بوصفك باحثة متخصصة، كيف وجدتِ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتجرد علمي؟ - لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته عن الجهاد داعياً للقتال من حيث هو هدف في حد ذاته، بل حرص فيه على أن يتناول الحالات التي لا تستدعي اللجوء إلى الجهاد، والأعمال التي لا ينبغي ارتكابها عند الشروع في الجهاد؛ فحرَّم قتل النساء والأطفال والمدنيين والحيوانات وتدمير المنشآت وحرق الأشجار، وكانت فكرة الجهاد في اجتهاده تقوم على إنهاء حالة الصراع للبدء في تكوين العلاقات مع الخصوم، والمؤمنون بآراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يسمون أنفسهم الوهابيين، بل يطلقون على أنفسهم صفة «الموحدين»؛ لأن تعاليم الشيخ كانت ترتكز على وحدانية الله. ولا يدور بخلدهم أنهم تابعون للشيخ؛ لأنهم ببساطة مسلمون يتبعون تعاليم الله. وأعتقد أن مصطلح «الوهابية» اخترعه العثمانيون، الذين كانوا يخشون أن تسيطر هذه الدعوة القادمة من وسط الجزيرة العربية على نفوذهم في منطقة الحجاز، وهو الأمر الذي حدث بالفعل فيما بعد، وأثار انزعاج العثمانيين الذين أرسلوا إبراهيم باشا في جيش كبير لمحو منطقة الدرعية، حيث نفوذ الشيخ، من الوجود. وقد سقطت الدرعية بالفعل تحت قبضة العثمانيين بعد دفاع مستميت من أهلها كما تقول كتب التاريخ. * مصادمة الرأي العام بأفكار ونتائج تخالف السائد لديه غالباً ما تخلق جدلاً واسعاً وردود فعل سلبية.. كيف تقيمين ردود الأفعال حول كتابك عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟ - كانت ردود الأفعال تجاه كتابي حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب متفاوتة؛ فمن الكتَّاب والمفكرين من رأى فيما قمت به إسهاماً كبيراً في مجال غير مطروق في دوائر البحث الغربية، ومنهم من رأى أنه تم استقطابي من قِبل مؤيدين لهذا الطرح. والحقيقة هي أنني لم أكن أعبر سوى عن وجهة نظري وتوجهي بوصفي باحثة تبحث عن الحقيقة، وليس غيرها. وللأمانة، فلم أجد خلال مسيرة بحثي سوى التعاون من الأمير فيصل بن سلمان، الذي ساعدني كثيراً من خلال تزويدي بمراجع البحث، بل إنه لم يطلع على فحوى البحث حتى صدوره. وكما ذكرت كان لبحثي هذا ردود أفعال واسعة في وسائل الإعلام الأمريكية؛ فقد كتب بعضهم مدافعاً عن الكتاب ومعتبراً البحث مرجعاً مهماً ودراسة موضوعية حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بينما كان البعض الآخر عنيفاً في هجومه على الكتاب. ومن ردود الأفعال المهمة أيضاً أن شيخ الأزهر أصدر فتوى بمنع دخول كتابي هذا إلى مصر، واستمر هذا الحظر سنوات عدة حتى رُفع فيما بعد. وفي كتابي هذا حاولتُ الربط بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض الحركات الفكرية المعاصرة لهذه الدعوة في القرن الثامن عشر، مثل دعوة الشيخ محمد عثمان دان فوديو في نيجيريا، وحركة أخرى مماثلة في الهند؛ حيث إن كل هذه الحركات حركات إصلاحية، كانت تأخذ تعاليمها من المعين الصافي للتعاليم الإسلامية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية. وفي اعتقادي أن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تمثل توجهاً فكرياً واسعاً، كان سائداً في القرن الثامن عشر في عدد من المناطق الإسلامية. وقد أثبتُّ في بحثي المصادر العلمية التي أخذت عنها معلوماتي في مواضعها في الكتاب، بحيث يستطيع القارئ الراغب في المزيد من المعلومات الرجوع إليها. * من خلال تجربتك، بوصفك باحثة في الفكر الديني، كيف تقيمين افتتاح مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات؟ وما هو تصورك للنتائج المتوقع أن يحققها المركز في المستقبل؟ - أعتقد أن افتتاح مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الديانات والثقافات يمثل خطوة شجاعة في سبيل التقريب بين أصحاب الأديان والمعتقدات المتباينة في عالمنا. وبالتأكيد فإن الإعداد لافتتاح هذا المركز قد استغرق وقتاً طويلاً، وبُذل فيه جهد كبير، وسيكون له دور مهم في التعريف بالآخر، وتعزيز التفاهم بين الشعوب، والتعريف بالقواسم المشتركة بين الأديان والثقافات، ودعم التوجُّه نحو التسامح والتلاقح الفكري والتعايش السلمي بين الأديان والمعتقدات. وقد اعتقدت في بداية الأمر، كما اعتقد الكثيرون، أن مساحة الحوار الذي يتبناه المركز ينحصر في الأديان السماوية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، غير أن إدراج الهندوسية والبوذية يبعث رسالة للعالم، فحواها أننا بحاجة إلى أن نستمع للآخر، ونتعرف عليه ونفتح قلوبنا له، وأن نتعلم من بعضنا بعضاً. * في اعتقادك، ما أهم الوسائل التي من شأنها الدفع بدور المركز إلى الأمام وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرجوة منه؟ - هذا سؤال مهم جداً؛ فلكي يؤدي المركز دوره ينبغي أن تتوافر الدراسات الكافية حول الأهداف التي يرمي إليها المركز. ومن شأن الجامعات أن تسد هذه الفجوة؛ ذلك أن الجامعات ساحات مناسبة للحوار بين الأديان والثقافات، وإقامة الندوات وإجراء البحوث وإصدار الكتب في نهاية المطاف. وأعتقد - حسبما اطلعت عليه من أهداف هذا المركز - أنه سيكون عملياً في أداء مهامه، وسوف يتوجه نحو الجذور للتعامل مع الحوار الديني والثقافي في منابعه. والتساؤل المهم المطروح هنا هو الكيفية التي تستطيع بها الجامعات ومراكز البحوث القيام بدورها في مساعدة المركز للوصول بجهوده إلى الناس. وفي هذا الصدد آمل أن أستطيع القيام بدور متواضع في ذلك؛ حيث إنني أقوم بتدريس مادة المقارنة بين الإسلام والمسيحية.