في فجر يوم الأربعاء أول شهر ذي الحجة سنة 1433ه الموافق 17/10/2012م توفي صديقنا الأستاذ الجليل المعُمر الشيخ محمود بن ياسين الحمد رحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله. والشيخ محمود من رجال التربية والتعليم الأوائل في المملكة العربية السعودية الذين أقاموا صرح الثقافة والتعليم على أسس إسلامية خالصة، وعملوا على بناء الجيل الذي ينهض في عملية التربية والتعليم، وكان قسم كبير من هؤلاء الأوائل من بلد العلم من الشقيقة الكبرى مصر.. وشاركهم في ذلك أفاضل من بلاد الشام.. أحسن الله جزاءهم وبارك فيهم. عرفت الشيخ محمود من بضع وخمسين سنة منذ أن وطئت قدماي هذا البلد الطيب.. عرفته رجلاً غيوراً على الإسلام.. داعياً المسلمين إلى الالتزام بالكتاب والسنة.. ينصح ويذكر ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. وكان عاملاً بما يقول.. وهذا يظهر جلياً في أبنائه وبناته من التزام العمل بالكتاب والسنة. كان مشرق الوجه باسم المحيا دائماً، يلقى الناس بوجه طليق، وكان مهذب العبارة يكرم الضيف، ويعين المحتاج، وكان صابراً على ما يلقى في هذه الحياة التي لا تخلو أيامها من معكرات فما كانت هذه المعكرات تنال من أمله الواسع بمستقبل الإسلام وكان دائم الصلة بأصدقائه يتفقد أحوالهم وكان وفياً لهم وكان متواضعاً وكان حسن الاستماع إلى من يحدثه في الأمور العامة والخاصة وكان يحبه كل من عرفه.. رحمه الله وأحسن إليه. جاء في (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مائة عام) المجلد السادس في صفحة رقم 273 ما يأتي: ولد الشيخ محمود سنة 1326ه - 1918م. وهو من مواليد نابلس في فلسطين، تلقى تعليمه الأولي في فلسطين، وهاجر مع أسرته إلى المملكة فحصل على إجازة علمية في الحرم المكي. ومن الذين درس عليهم الشيخ محمد بن مانع درس عليه الفقه واللغة العربية والتوحيد. والشيخ عبدالرزاق حمزة درس عليه الحديث والتفسير في مدرسة دار الحديث. وارتحل إلى الرياض فدرس على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز، وعمل معلماً سنة 1361ه بمدرسة السيح بالخرج التي أسسها وزير المالية عبدالله بن سليمان بطلب من معتمد المعارف بنجد حمد الجاسر. عاد إلى فلسطين وعمل في بلدته (برقة) معلماً في مدارسها الابتدائية خلال المدة 1365 - 1368ه. ثم رجع إلى الدلم سنة 1368ه وتولى إدارة مدرسة الدلم الابتدائية وفي سنة 1369ه رحل إلى مدينة عنيزة بأمر من مدير المعارف محمد بن مانع لتأسيس المدرسة الفيصلية بعنيزة، وأصبح مديراً لها إلى سنة 1371ه، ثم عاد إلى مدينة الرياض وتولى إدارة المدرسة الفيصلية بالرياض سنة 1372ه حتى سنة 1377ه. وحينها عمل مفتشاً فنياً في إدارة تعليم نجد حتى سنة 1382ه، وانتقل إلى وزارة المعارف أميناً لمكتبتها سنة 1383ه حتى سنة 1385ه، وختم حياته الوظيفية بالعمل في مركز المعلومات الاحصائية التربوي بوزارة المعارف حتى تعاقد سنة 1396ه. وهناك أمر مهم جداً في حياة الشيخ المباركة لا يقل عن الشأن التربوي ألا وهو الجهاد في سبيل الله، ذلك أن الإنجليز وهم من ألد أعداء المسلمين عاثوا في ديار المسلمين فساداً وحاربوا الإسلام وقهروا المسلمين بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في الهند ومصر وبلاد الشام والعراق، وتعاونوا مع فرنسا على تقسيم بلاد الشام البلد الواحد إلى أربعة بلدان وهي سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن في اتفاقية (سايكس بيكو) فاحتل الإنجليز فلسطين والأردن، واحتل الفرنسيون سوريا ولبنان. ولم يستسلم المسلمون في تلك البلاد بل قاموا ثائرين على ذاك الاحتلال، فقامت ثورة في سوريا دعا إليها العلماء من أمثال الشيخ محمد كامل القصاب المولود في دمشق سنة 1290ه والمتوفى في 1373ه الذي حكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فأقام حقبة في مكة ثم غادرها إلى حيفا، وأنشأ بها مدرسة تدعو إلى الجهاد وإخراج الإنجليز، ومن أمثال الشيخ عز الدين القسام المولود في جبلة من محافظة اللاذقية سنة 1300ه وغيرهما، ولاحقه الفرنسيون فغادر دمشق إلى فلسطين ونزل في حيفا خطيباً في جامع الاستقلال داعياً إلى الجهاد وقام بنفسه يحارب الإنجليز وله مواقع بطولية يحارب الإنجليز المعتدين الذين عملوا على أن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود، وأتاحوا لليهود أن ينشئوا منظمات إرهابية تهلك الحرث والنسل.. ومازال القسام يحارب الإنجليز مع تلامذته ويحاربهم منفرداً أيضاً حتى قضى نحبه شهيداً في سنة 1354ه - 1935م رحمه الله وكان فقيدنا الشيخ محمود من الشباب الذين حملوا السلاح وقاتلوا الإنجليز، وكانت له وقفات بطولية في ذلك، وكان اخوه الشيخ أحمد من المجاهدين الأبطال فحكم الإنجليز عليه بالإعدام، ففر إلى العراق وهنا أصبح الشيخ محمود مهدداً بالاعتقال والنكال، فهاجر إلى مكة واستقر في هذا البلد الطيب.. وتمكن الإنجليز من فلسطين - وأسفاه - إلى أن سلموا فلسطين لليهود ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. مضى الشيخ محمود من هذه الدنيا الفانية ولقي وجه ربه وقد خلف وراءه ذكراً طيباً وذرية طيبة. أما الذكر الطيب فإنك لا تذكر اسمه أمام أحد يعرفه إلا ذكره بخير وترحم عليه ودعا له بخير.. وهذا - بلا شك - عمر ثان. يقول أحمد شوقي: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان إنك لترى كثيرا من الناس يأتون إلى هذه الدنيا ويذهبون ولا يسمع لهم ذكر وهناك من يتركون الذكر السيئ كالطواغيت وأعداء الله. وإنك لترى في الوقت نفسه ناساً ذكرهم الطيب دائم على الألسنة.. وخلّف الشيخ ذرية طيبة من العلماء والصالحين وهم سيدعون لوالدهم بعد موته.. ولذا فعمله الصالح مستمر بعد موته كما جاء في الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم 1631، فلقد خلّف الشيخ يرحمه الله (ستة عشر ولداً: تسعة منهم ذكور وسبع من البنات وعددا كبيرا من الأحفاد والأسباط. وأسماء أولاده من السادة والسيدات والأساتذة والدكاترة حفظهم الله جميعاً كما يأتي: (عبدالرزاق، عبدالعزيز، جمال، عبدالحميد، ماجد، رائد، زاهي، زياد، ياسين). وأسماء البنات (هدى، منيرة، منى، سهى، سناء، ليلى، رويدة). وفي ختام هذه الكلمة الموجزة أتقدم بالتعزية إلى هؤلاء الأولاد الكرام البررة بنين وبنات وإلى محبي الشيخ وأصدقائه وأصهاره. وأسأل الله أن يجعل أولاده الكرام خير خلف له. هذا ولابد لي من ذكر بر هؤلاء الأولاد الكرام بأبيهم جزاهم الله على ذلك خير الجزاء.. فقد بلغني أن الدكتور عبدالرزاق حفظه الله كان - في أيام مرض والده الأخيرة - ينام في غرفة والده يرعاه ويلبي طلباته، وكذلك كان إخوته في البر والرعاية. فهنيئاً لهم فقد أوقفتنا الحياة على أن البار لوالديه يعجل الله له المكافأة في الحياة الدنيا قبل الآخرة من التوفيق والسداد والسعادة وتحقيق المطالب ولجزاء الآخرة أكبر وأبقى. وصلى الله على سيدنا محمد وآله والحمد لله رب العالمين. - أستاذ علم الحديث بجامعة الملك سعود سابقاً