في ظهر يوم الأربعاء السابع من حزيران للعام ألف وتسع مائة وسبع وستين، سقطت مدينة القدسالشرقية في يد الاحتلال الإسرائيلي، وتوجهت بعدها قوات الاحتلال فوراً إلى ما يُعرف بحي المغاربة، والذي يقع إلى الجانب الجنوبي من حائط المسجد الأقصى المبارك، وقامت بعملية تدمير شاملة للحي، بدعوى أنه ملاصق إلى حائط (المبكى) البراق، والذي يمثل مقدساً من مقدسات الأساطير التوراتية (تحت دعوى أنه يمثل جزءاً من أساسات هيكل سليمان المزعوم)، والذي كانت قد قضت لجنة بريطانية سنة 1929م بملكية الحائط المذكور للوقف الإسلامي لكونه جزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك، الذي هو بدوره ملك إسلامي خالص، ولكنها منحت اليهود حق التعبد فقط بجانبه، على أن توضع قطعة من القماش على الحائط المذكور. وقد جاء هذا الرأي للجنة البريطانية بعد الثورة التي عُرفت بثورة البراق، والتي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى من الفلسطينيين. وفي هذا السياق، عندما وصل موشي دايان وزير حرب العدو وإسحاق رابين رئيس هيئة الأركان وقت احتلال القدس للاحتفاء بالسيطرة على المدينة المقدسة واتجاها صوب المسجد الأقصى، فلاحظ موشي دايان وجود راية إسرائيلية تعلو قبة مسجد الصخرة والتي تمثل جزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى، أمر موشي دايان في حينه فوراً بإزالتها لما تمثله من تعدٍ على المقدسات الإسلامية، وتحدٍ واستفزاز لمشاعر المسلمين، يخشى حينها موشي دايان من ردة فعل غاضبة للعرب والمسلمين قد تفقد إسرائيل انتصارها المؤزر!! لم يكن يتوقع وزير حرب الكيان الصهيوني، أن المشاعر العربية والإسلامية قد دخلت في سبات عميق لدرجة لم تستوعب حتى بعد خمسة وأربعين عاماً من احتلال القدس والمقدسات الإسلامية، مدى خطورة أن تحتل القدس وأن تصبح أقدس مقدسات المسلمين القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين تحت السيطرة الصهيونية!! إلا أن صمود الفلسطينيين في القدس وفي أكناف بيت المقدس قد مثل الدرع الواقي لحماية القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية معاً من عبث الصهاينة، واستهدافهم لهذه المقدسات لتزوير الواقع العربي الإسلامي والمسيحي للأرض المقدسة والمباركة. ولكن هذا الصمود المتواصل والمستمر للشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين وعاصمته القدس الشريف والذود عن مقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى، لم يَحُلْ دون استمرار الخطط والسياسات والإستراتيجيات الصهيونية التي لم تتوقف عند مستوى الانتهاكات اليومية لهذه المقدسات، بل تسعى إلى تدميرها ومحو الطابع العربي الإسلامي والمسيحي لكل ما تحتضنه المدينة المقدسة من مقدسات، تكشف عن كذب الادعاءات الصهيونية في أحقيتها التاريخية والأسطورة الدينية التي سوقتها عبر أدبياتها على مدى قرون في أوساط الجاليات اليهودية المختلفة منذ بدء التخطيط لمشروعها الاستعماري لفلسطين، موظفة هذه الأساطير لشحذ همة اليهود، وخصوصاً البسطاء والمتدينين منهم لدعوتهم بل ودفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين عامة والقدس منها خاصة. وهنا تبرز حاجة الصهيونية للاستحواذ على المقدس، والمقدسات، لتمنح مشروعها الاستعماري الاستيطاني بعداً دينياً مقدساً، كما فعل الصليبيون في تبرير حملاتهم على بلاد المشرق العربي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، أن الهدف منها تحرير القدس والأراضي المقدسة، وكان الصليب شعار حملاتهم. غير أن الحقيقة كانت غير ذلك على الإطلاق، إنها شهوة التوسع والسيطرة والنفوذ على الشرق وخيراته. واليوم الصهيونية ومشروعها الاستعماري تتغطى بشعارات الصراع على المقدس وبأحقيتها التاريخية والدينية في استعمار واستيطان القدسوفلسطين!!! لقد فشلت الحركة الصهيونية على مستوى البحث التاريخي الموضوعي من تقديم دليل واحد لغاية الآن على وجود مقدس سواء في القدس خاصة أو في فلسطين عامة، لتدعم به ادعاءاتها الزائفة، ولذلك تسعى اليوم إلى إفقاد المقدس الإسلامي قدسيته كخطوة في سياق إستراتيجية محكمة، تستهدف في نهاية المطاف تدمير هذه المقدسات، التي تمثل دليلاً واضحاً على هوية هذه الأرض وانتمائها الذي لا يستطيع أحد إنكاره. تلك سياسة جهنمية تعتمد التزوير وخلق وقائع جديدة عمرانية وسكانية، سياسية، واقتصادية، تديم سيطرتها على القدسوفلسطين. من هنا تأخذ المقدسات الإسلامية والمسيحية أهميتها في الصراع الدائر في فلسطين، وستصبح عنواناً للصراع يصعب حسمه بالطرق السلمية، ويدخل المنطقة في أتون حروب مقدسة، تبدأ ولن تنتهي. وهنا يكتمل الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية!! لقد كثف الاحتلال الإسرائيلي من وجود المدارس الدينية اليهودية بالقدس، ومن توطين المتدينين اليهود في مدينة القدس، وعمل على تنمية مشاعر التطرف في سياق هذه الإستراتيجيات، ورصد الموازنات الحكومية والبلدية والشعبية لتنفيذ هذه السياسات، وعمل على محاصرة الأحياء العربية وتضييق سبل العيش فيها، وإفقاره السكان العرب، لدفعهم إلى هجرة المدينة المقدسة، لتصبح الطريق سالكة أمام سياساته الهادفة إلى تهويد المدينة المقدسة، وتحقيق خططه في الاستيلاء على المقدسات فيها وإقامة رموز دينية يهودية على أنقاضها، وفي مقدمة ذلك تدمير الأقصى المبارك وإقامة (هيكل سليمان) المزعوم على أنقاضه، ليصبح رمزاً دينياً مقدساً لليهود يحجون إليه من كل أصقاع الأرض، وإضفاء الطابع اليهودي على مدينة القدس والقداسة التي يفتقدها مشروعهم الاستعماري الاستيطاني!! في هذا السياق يجب البحث والنظر عربياً وإسلامياً ومسيحياً، لخطط إسرائيل وانتهاكاتها المستمرة والمتواصلة للمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين عامة والقدس خاصة، وعلى هذا الأساس يجب وضع السياسات الفلسطينية والعربية، الإسلامية والمسيحية لمواجهة هذه السياسات الصهيونية الهادفة إلى النيل من المقدسات وإدامة الصراع والنأي به عن آفاق الحل السياسي، فلا بد من وضع السياسات العربية والإسلامية التي تمكن الشعب الفلسطيني من إدامة صموده في القدس أولاً وفي فلسطين ثانياً، لأن الذي يعطي المقدس أهميته ومكانته هو الإنسان الذي يشغله ويعمره، وليست الشعارات والخطب، ولا القصائد ولا الأغاني إذا لم يتحول مضمونها إلى سياسات حقيقية قابلة للترجمة والتنفيذ على الأرض. منظمة التعاون الإسلامي (التي أُنشئت أصلاً للرد على انتهاكات إسرائيل للمسجد الأقصى)، والجامعة العربية معنيتان اليوم بالوقوف على درجة الخطر التي باتت تحيق بالقدس وبالمقدسات الإسلامية، ومعنيتان بوضع السياسات والإستراتيجيات المضادة للسياسات والإستراتيجيات الصهيونية، كي يتوقف المشروع الصهيوني عن مخططاته، وعن غيه وغاياته الجهنمية، والتي قد تقذف المنطقة إلى حروب مقدسة لا يعلم أحد مداها. ولا بد من الانتقال بالموفق العربي والإسلامي، من سياسة رد الفعل إلى سياسة الفعل، ومن سياسة الإدانة والشجب والاستنكار، إلى سياسة المواجهة الرادعة التي توفر الأمن والحماية للشعب الفلسطيني في القدس أولاً وفي فلسطين ثانياً، حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من مواصلة هذا الدور التاريخي في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية والدفاع عنها في وجه الأخطار الصهيونية المحدقة بها، إلى أن تحين ساعة الحسم والخلاص من هذا العدوان المتواصل والمستمر على المقدسات وعلى الأرض وعلى الإنسان في القدس وفي فلسطين. لا يجوز أن يستمر العرب والمسلمون بالانشغال بأحداث ثانوية أو بأحداث داخلية تتيح الفرصة لإسرائيل كي تستكمل مخططاتها في تهويد القدسوفلسطين معاً، فالقدس تستحق أكثر مما بُذل عربياً وإسلامياً، وتستحق العطاء أكثر، وتستحق العمل الجاد من أجل خلاصها من براثن الاحتلال، حتى لا يفيق العرب والمسلمون يوماً ما، تكون فيه إسرائيل قد أكملت مخططاتها في التزوير والتدمير لكل المقدسات الإسلامية، ونفيق على نكبة فلسطينية عربية إسلامية جديدة يصعب الشفاء منها ويصعب علاجها -لا قدر الله!! E-mail:[email protected] عضو المجلس الوطني الفلسطيني - الرياض