الطيبون وحدهم يقررون مغادرة الحياة بأيديهم! يواجهون يتعاركون ينتصرون مرة يهزمون مائة مرة، يسجلون للمرة الألف الفشل الأخير ثم يغادرون! هذه هي خلاصة الجسد المسجى في نهاية رحلة لم تمتد طويلا، ولم يمنحها صاحبها فرصة أخيرة لتجربة الحياة؛ بل اختار أن يكون جسده مسجى على نحو مألوف تحت جسر عالٍ أو شرفة مرتفعة أو مروحة معلقة أو حتى دش حمام رأى أن يكون ملاذه الأخير بعد أن لم يجد ملاذا إلا حضن قطرات ماء متقطعة قد تنسكب عليه بعد أن يغادر تطهيرا له من رحلة الآلام! من كان أولى أن يغادر؟! من كان أحق بأن يعلق رقبته من شرفة فندق سبعة نجوم؟ أهو الإنسان البسيط الكادح المناضل الذي أغلقت أمامه كل الدروب وعجز أن يجد طريقا ولو عسيرا إلى لقمة عيش شريفة أم هو ذلك الذي سد عليه دروبه وسرق منه لقمة عيشه؟! من هو الأحق بالبقاء أو الفناء؟ من هو الأجدر أن يكفر عن خطاياه أهو ذلك الذي ضاقت به الدنيا واسودت في عينيه الحياة؛ لأنه لم يهتد إلى وظيفة يقتات منها أولم يجد له مأوى يستره وحاصرته الفاقة والديون؟ أم هو ذلك الذي سرق منه فرصته الوظيفية وأدار عليه سياجا خانقا من الشبوك حتى كادت تنهصر أضلاعه بين جنبيه؟! أكل الذين يقررون المغادرة بدون تلويحة وداع ويرحلون بعد رحلة معاناة طويلة مرضى نفسانيون كما تعودنا أن نقرأ من تعليل تذيل به أخبار المنتحرين والمنتحرات؟! وإذا كانوا بالفعل مرضى فمن أوصلهم إلى حافة المرض حتى اضطروا أن يلجؤوا إلى هذا الحل المأساوي؟ أليس هو مجتمعهم الذي أصبح يطأ بمتطلباته ودواعي العيش فيه أحلام الشداة والناشئة ممن هم على بداية الطريق فيجد الشاب أن تحقيق أحلامه المتخيلة في أدنى حدودها يكاد يكون مستحيلا حتى لو أنفق من عمره عشرين عاما بعد بلوغه مرحلة النضج وتحمل المسؤولية ليكون بيتا وأسرة ومصدر دخل يكفل له حياة كريمة! إن الفئة التي تتوفر لها الأسس الضرورية لبدء حياة أسرية وعملية مستقرة محدودة ولا تمثل النسبة العظمى من أجيال الشباب؛ بل إن الكثرة الكاثرة من أبناء هذا الجيل تعاني من العسر والمشقة في أمور كثيرة هي من الضرورات التي لابد منها لانطلاقة الشاب متفائلا مندفعا متفاعلا مع مجتمعه؛ وهي: الوظيفة التي تدر راتبا جيدا والسكن والزواج وإذا تعسر الحصول على واحدة من هذه الضرورات الثلاث إما لشح الوظائف الجيدة المناسبة أو لغلاء الأراضي أو لتكاليف الزواج فإنه يبدأ الدخول في دوامة القلق والانتظار والتسويف ثم الضجر والتأفف والرفض وتكون مشاعر الإحباط أو النقمة على المجتمع وبخاصة إذا رأى مظاهر ليست بعيدة عنه من توفر فرص الحياة الرغيدة المترفة لآخرين من حوله لا يملك من المؤهلات ومقومات الدعم العائلي أو القبلي أو المناطقي ما يمكن أن يسهل الوصول إلى تحقيق بعض مآربه في الحياة. لقد ارتفعت نسبة من يغادرون الحياة بقراراتهم الشخصية الاختيارية إلى 185 % في السنوات الخمس الأخيرة عن النسب المعتادة قبل ذلك ولو تمت إحصائية أخيرة لتأكد لنا ارتفاع الرقم إلى ما فوق 250 % مما يوحي بأن مشكلات عويصة لم تطرح لها حلول ضغطت على فئات من الشباب وبعض من هم في منتصف العمر لاتخاذ قرار الانتحار والرحيل الأبدي هروبا من أوضاع معقدة لا حلول لها في الأفق القريب المنظور وليس الموت إلا الصورة الأخيرة لذلك القرار الخطير؛ بينما ثمة صور أخرى للانتحار لا تنتهي بالموت السريع؛ بل بالموت البطيء فكم بيننا من منتحرين على هذا النحو يموتون ببطء؟ وكم بيننا من أرواح حية ميتة؛ هي بين الأحياء تعيش لكنها في حقيقتها ميتة بين الأموات إحباطا ويأسا وتشاؤما وسلبية وهروبا من الناس والمجتمع؟! الانتحار البطيء بالعزلة أو بالمخدرات أو بالمسكرات أو بالسفر العابث أو بالسلبية وعدم التفاعل وهيمنة روح الإحباط والرفض ليست إلا مقدمات أو دوافع أو محفزات لاتخاذ القرار الأخير وإن لم يجرؤ من يعاني من ذلك على الإقدام على المغادرة في لحظة سريعة حاسمة؛ فإنه يمارس فعل المغادرة مقطرة منجمة موزعة بالسرعة البطيئة إلى أن يذوب ويضمحل وينتهي مخدرا غائبا عن الوعي أو منعزلا مسيجا بالنفور من الواقع. والانتحار في كل صوره رفض علني مباشر للمجتمع؛ واحتجاج مهذب وإن كان دمويا وبشعا على طيف متعدد من الاتجاهات؛ إما سياسية أو أيدولوجية أو معيشية أو سلوكية ولا يعني هذا أن من ينتحر على صواب في احتجاجه على أي من الأطياف المذكورة؛ فقد يكون هو السبب والنتيجة؛ لعدم التكيف وعدم الحصول على فرصة معيشية مناسبة؛ وذلك عائد إما لجهله أو لكسله أو لعدم طموحه أو لتشوهه نفسيا بسبب تراكمات عائلية وتربوية ليس هو على حق دائما؛ لكن فئة ليست قليلة من هؤلاء الذين قرروا المغادرة لاشك أنهم يحتجون وبعنف على واقع ضاغط وصعب هم الضحية فيه وهو الجلاد! ومن أولى يا ترى أن يغادر الجلاد أم الضحية؟! [email protected] mALowein@