يد الخير والعطاء في مجتمعنا - ولله الحمد - سخية غير منقطعة ولا منقبضة، وهذه بنعمة الله سمة من سمات هذا المجتمع ولا يقتصر الأمر على الرجال دون النساء أو على التجار دون متوسطي الحال بل الجميع تراه يبذل قدر استطاعته ومنهم من يبذل وينفق مؤثراً غيره على نفسه بأن لا يدفع فضل ما عنده بل تجده ينفق من أصول ما يملك وبنفس راضية مطمئنة بما سيعود عليه من الأجر والثواب.. وهذه الأعمال الخيرية لا تقف أيضاً في مكان دون آخر، ومن هذا الصنف الأخير الذين يؤثرون على أنفسهم امرأة من محافظة بقعاء بمنطقة حائل تبرعت بمنزلها كاملاً للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة بقعاء. وقد نقلت ملكية البيت (الصك) إلى الجمعية للاستفادة منه في إقامة دار نسائية أو الاستفادة من (ريعه) وتأجيره واستثمار إيجاره بما يخدم المناشط الخاصة بالجمعية. والمرأة السعودية، وهي تقدم مثل هذه الأعمال، تمثل امتداداً لإسهامات وقفية بدأتها أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - فهن أول من أوقف من النساء، كما أنهن أيضاً أسهمن في إدارة الأوقاف، ومنهن أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر - رضي الله عنها - التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف حال وفاته، وتوالت المشاركات الوقفية النسائية طوال التاريخ وحتى عصرنا الحاضر ولم نعرف انقطاعاً قط، ومع إنشاء مؤسسات وقفية استقطبت المؤسسات إسهامات النساء مما أصبح وجود وقف صريح بأسماء الرجال أو النساء غير معدم. ومهما كانت الأوقاف صغيرة أو كبيرة فإن للمرأة نصيباً من هذا الإسهام، وكما ذكرت فإن في عصور الإسلام المختلفة وإلى يومنا هذا شواهد وأعمال وقفية نسائية خلّدها التاريخ وقبل هذا خلدت في صفحات المرء التي ستعرض يوم القيامة لدى رب العزة والجلال الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}.. ولعلي أسوق شاهداً معروفاً للجميع، ألا وهي زبيدة أم الخليفة الأمين وزوجة الخليفة هارون الرشيد رحمة الله عليهم أجمعين فقد بنت البرك والآبار والصهاريج في طريق الحاج وحتى مكةالمكرمة والمشاعر وعرفة، وأجرت لذلك قناة واستفاد منها الحجاج مئات السنين. وقد سجلت في كتابي الذي صدر مع مطلع هذا العام (ثقافة الوقف في المجتمع السعودي) شواهد ونماذج لأعمال وقفية قامت بها نساء سعوديات، وهي للمثال لا للحصر، وهناك ما هو أعظم وأكبر وأكثر من ذلك، ولكنها شواهد رأيت الاستشهاد بها ومما يحضر منها قيام أربع مواطنات سعوديات في الخرمة بالتبرع لإقامة مسجدين، وامرأة تبرعت بمنزلها الكبير لدار للقرآن الكريم، ونساء جدة يتبرعن بجرام ذهب لكفالة حفاظ القرآن الكريم، ومؤسسة الأميرة العنود تتبرع ببناء وقف عقاري لتحفيظ القرآن الكريم. وأعود للتأكيد لحديث الأمين العام للمجلس الأعلى للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم الأخ الشيخ عبد الله المزروع، “إن المرأة السعودية أكثر الداعمات لرسالة الجمعيات القرآنية، وإنه يوجد في جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالرياض 5300 امرأة مشتركة في خدمة الاستقطاع الشهري".. (طبعاً هذا العدد منذ عام) وربما زاد الرقم عن ذلك، وهن تبرعن لصالح تعليم القرآن الكريم وأوقافه بمبالغ عالية حيث تصل بعضها لألف ريال شهرياً، كما حدثني شخصياً أحد المهتمين ببناء الآبار والمساجد في الخارج بقوله: على مدى العمل الذي قضيته في هذا الجانب فإنني أؤكد أن النساء يتفوقن على الرجال في الجانب الخيري، وهذا ما لمسته بنفسي، فمعظم الآبار والمساجد أسهمت النساء أكثر من الرجال في بنائها والتبرع بها لأنفسهن وذرياتهن وأزواجهن ولوالديهن.. بل إن هناك من المعلمات من سجلن صفحات بيضاء ناصعة في الوفاء حين قمن في أكثر من مناسبة بالتبرع ببناء مسجد أو بئر واحتساب الأجر والثواب لأحد زميلاتهن المتوفيات وهذا أمر وقفت عليه بنفسي، كما أنني أعلم أن هناك رجالاً ونساء توفوا ولم يوقفوا، وقيض الله “البنات" اللاتي تبرعن من أنفسهن أو مما ورثن في بناء مساجد أو حفر آبار أو مشاريع أخرى من أعمال البر والخير. وفي الختام بقدر ما أثني على هذه الأعمال الخيّرة الطيبة التي تنم عن طيب معادن بنات الوطن فإنني أؤكد لهن بما سبق أن قلته للواقفين من الرجال، إن كمال الأجر ليس محصوراً في أعمال محدودة، فهناك من المشروعات الصحية والتعليمية والخدمية مما يُرجى نفعه - بإذن الله -، ومن ذلك صيانة المساجد، فهي لا تقل أهمية عن بنائها، ونحن هنا في هذا الزمن يؤثر الإعلام تأثيراً بالغاً على المجتمعات، ولذا أتمنى أن يلتفت الرجال والنساء على حد سواء للمساهمة في دعم أوقاف إعلامية تخدم الإسلام والمسلمين، وكذلك طبع الكتب وغيرها من الأعمال الأخرى التي لا حصر لها، والله أسأل أن يبارك لجميع المنفقين في أوجه الخير، وأن يرحم من توفي منهم، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم يوم القيامة، والحمد لله رب العالمين. [email protected]