تترى نوادر الأمهات، نماذج المربيات، أولئك المكيات اللاتي كن يربين صغارهن بالفطرة النقية، والحس اليقيني الشفيف، والإيمان العفوي الذي تجذر في العمق نوره، وتحولت الخشية به من الله حضوراً واعياً، ويتعالي به الحس.. ويتسامى... تربيتهن لصغارهن تعنى أول ما تعنى بتعويدهم على السلوك المهذب، عن طريق زرع الأخلاق الحميدة فيهم، وتدريبهم على مسالكها، وأولها احترام الكبير، والحرص على الصلاة، وعدم الكذب، ورفض الخنوع لإمارة النفس، ولإمارة الخارج عنها، من وساوس الشيطان، أو الإنسان.. وما يعنينا هنا من منظومة هذه الأخلاق، والمسالك هو ذلك التعهد منهن بتدريبهن صغارهن على الصوم، يبدأ ذلك في البيوت المكية من نعومة السن، وبراءة العهد بالتعرف على أبجدية العبادات: الصلاة، الصوم، قراءة القرآن.. الطاعة للكبير، والاستجابة للتوجيه.. تلك هي أسس تربية المرأة المكية لأبنائها.. تجلس الأم في الضحى من كل يوم لتقرئ صغيرها القرآن.. وإحياء بعد العصر، وإن أدى الأمر إلى الترهيب بعد الترغيب، عصاتها عند الحاجة نظرة من عينها تصوبها إلى صغيرها بكل معاني الحزم، أو ضربة خفيفة على كتفه إن أمعن في التلاعب، والانصراف.. هي بين الجد والحزم، وبين الرحمة والحب.. حتى إذا بدأت تعلمه الصلاة بالاقتداء بكبار الأسرة ، توجهه نحو الصلاة بمجرد سماع الأذان، وتطلب منه قراءة ما تعلم، وحفظ من الآيات في صلاته حين يكون منفرداً.. تفعل ذلك بالبنات، والأولاد... أما في رمضان، فيكون التدريب على الصوم من السادسة، وإدراكها بعدم قدرة الصغار على الصوم ليوم تام، فإنها تعد لصغيرها الصائم وجبة مفيدة، تقدمها له في منأى عن عيون أفراد الأسرة، وتكون هذه الوجبة أو الأخرى خلال النهار هدية من الرب له... وتسمي المكية صوم الصغار «صوم من وراء الزِّير».. والزير هذا في البيوت المكية، هو أيضاً من الفخار، لكنه النموذج الأكبر من «الشربة» التي تستخدم لماء الشرب.. فهو أيضاً تتزين به فسحات البيوت المكية، بجوار أحواض الريحان, والفل، والياسمين، والصبار, وهذه أكثر النبات شيوعاً في أسطحة، وردهات البيوت المكية.. «الزير» من الفخار حجمه أكبر من ا»لشربة»، وفوهته في الأعلى، وهو أكثر اتساعاً منها، وعادة تستخدم المياه التي تودع فيه للاغتسال، والوضوء، و»رش» مداخل البيوت، وفسحاتها حين القيظ.. ولأن الصغير تكبر الأحجام في عينيه، فإن «الزير» يجول في مخيلته سداً يحتمي خلفه عن العيون فلا تراه وهو يأكل في نهار رمضان، وينطلي على الجميع أمره، فهو صائم إلا أن «ربه» وحده الذي يراه، وهو يأكل، ويراه وهو يصوم بقية الوقت من نهار رمضان، لكنه يسمح له، ويهديه هذا السماح مكافأة له لأنه رغب في الصوم من أجله تعالى، وهو لا يزال طفلاً، أو طفلة.. تربي المكية، وتدرب الصغير في آن.. تغرس الإيمان، وتعود على الطاعة والعبادة.. فتصبح عبادات صغارها عادات.. والعكس تماماً.. المكيات كن يتعاملن في تربيتهن للحس الإيماني في صدور صغارهن، بأسلوب فاق نظريات التربية الحديثة تأثيراً، وبلوغاً.. ويكبر الصغير وفي وجدانه الإحساس بجمال مرحلة التدريب على الصوم.. والجميل الذي كان «للزير» الذي صام من خلفه.. لكنه مرتبط بطيب الخاطر, والامتنان لربه الذي أهداه طعاماً خلال فترة صيامه، وتقبل منه، كما تقبل من الكبار الذين لم يصوموا من وراء «الزير»، بل أمضوا اليوم كاملاً بلا لقمة، ولا رشفة ماء.. تعزز المكية في نفوس صغارها قيمة الإيمان برحمة الله، وقربه، وتؤسس لقيمة الإحسان برؤيته تعالى لعبده، وإن لم يكن هذا العبد يراه بعين الكبير, ولا الصغير معاً.. هكذا هي المرأة المكية الرقيقة العميقة المؤمنة بلا تزلف, ولا تكلف. عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855