يُعدُّ أبو حيان التوحيدي أحد أدباء العربيَّة الذين دار جدل كبير حول منزلتهم الأدبية، وما يدينون به من رأي في المعتقد، وقد لا يكون ذلك لشيء كتبوه بقدر ما هو لمسلك في حياتهم، ومن هنا أصبحت الأقاويل عن معتقده تعتمد على مرويات لأناس قد عاصروه ولا تجد مستندًا في آثاره، وهو أمر بليت به الثقافة العربيَّة القديمة وورثتها المعاصرة بكلِّ ما فيها من سلبيات. وتمثِّل كتابة أبي حيان التوحيدي بشكل كبير الكتابة العربيَّة في تطورها الذي حققته في القرن الرابع، والخامس، وذلك من خلال إنتاج ثقافة جديدة ناتجة عن الثقافة المنقولة في القرون السابقة له سواء كانت هذه الثقافة المنقولة عربية أصيلة أو مستوردة أصيلة أيضًا أو محاولة للجمع بينهما كما عند الجاحظ، ومن هنا عدَّ التوحيدي استمرارًا لمدرسة الجاحظ، بل ذكر بعضهم أنه كان يحاكيه. ولعل استعصاء كتابة أبي حيان وعسرها، وعمق الفعل الثقافي داخلها جعل كثيرًا من الدارسين يحجمون عن إدراك جماليات هذا المنتج، وإدراك بواطن أسراره العلمية والفكرية، وهو ما جعل القراءة له تمر مرورًا سريعًا معتمدة على ما ذكره القدماء وبعض المعاصرين من تفوق أبي حيان وجودة كتابته. وتعد حادثة إحراق أبي حيان التوحيدي كتبه واحدة من أهم الحوادث التاريخية في الثقافة العربيَّة صدمة لوعي العقل العربي القديم، والحديث على حد سواء، وقد ردها كثير من الدارسين إلى نظرة أبي حيان السوداوية إلى المجتمع الذي أهمله، ولم يعطه قدره، بناء على أن المجتمع لا يستحقُّ هذه الكتب، وكأنه موقف ثقافي ينكر فيه على المجتمع عدم اهتمامه به شخصيًّا ويحاول أن يتخذ ردة فعل على ذلك. هذا التفسير لموقف أبي حيان يصوِّر أبا حيان في موقع المستعلي عن المجتمع من حوله، المعرض عنهم، المحتقر لهم، وهو يتفق مع الصورة القاتمة التي رسمها بعض الدارسين له، إلا أن العجيب أننا لا نجد لهذا التفسير مستندًا في رسائل أبي حيان نفسه، فهو من إسقاطات بعض الكتاب الذين ربَّما يجدون في نفوسهم وجدًا على المجتمع العربي ويرغبون في أن يحملوا أبا حيان ما لم يحتمل. على أن أبا حيان لم يدع مجالاً للتخمين في سبب إحراق كتبه، فقد أشار في رسالة بعثها إلى القاضي الذي لامه على إحراق كتبه إلى سبب ذلك الفعل، فذكر أنه لا يرجو أن ينتفع بها في حياته، وهو أمر يتصل به، لم يربطه بالمجتمع بقدر ما ربطه بنفسه، ثمَّ إنه أيضًا لا يرجو أن يستفيد منها بعد وفاته، بمعنى أنه لا يرجو أن يسلم من الذم بسببها بعد وفاته، وكأنه لا يأمن أن تتعرض للتأويل، فإذا كان الناس لم يقرؤوها على وجهها وقد كان بين ظهرانيهم، ولم تأخذ منهم المحل الذي تستحقه، فلم إذًا يتركها إلى أجيال لن يكون الأمر معها أحسن حالاً؟ وهو ما ذكره أبو حيان نفسه حين أشار إلى أنه لا يأمن أن تتعرض لسوء التأويل، ولا تسلم من طاعن، الأمر الذي يجعل ما قام به أبو حيان عين الصواب، فهي ليست من الثقافة المقبولة في المجتمع، ولا من النتاج الذي يرجى أن يقبل الناس عليه، ومن هنا فلا يظن أبو حيان أن الناس سيقبلون بعد أدبار، أو سيهتمون به بعد صدود. ومن هنا فإن هذا الموقف موقف معرفي بالدرجة الأولى يتصل بأهمية هذه العلوم لدى علماء عصره، وما يمكن أن يؤول إليه أمر هذه المعارف في الأجيال اللاحقة له، وهو مآل غير حميد كما يبدو في رؤية أبي حيان. ورغبته في السلامة من الذم بعد مماته، وتحوله إلى نسي منسيًا بعد أن أعرضت عنه الأيام في حياته، ولم يجد حظًا وافرًا منها. وهي مشكلة معرفية حقيقية وقف عليها أبوحيان تتمثِّل بالإعراض عن أصحاب الإنتاج المعرفي الحقِّيقي ووصفهم بالزندقة وأقبح النعوت والإقبال على أصحاب الإنتاج القائم على الجمع أو الشرح أو التصنيف. هذا الاتجاه في السياق المعرفي العربي هو الذي جعل أبا حيان يقدم على إحراق كتبه التي كانت سبب شقائه في حياته لئلا تكون طريقًا لشقائه بعد مماته.