في الجزء الأول تحدثتُ عما حدث في تونس وليبيا، ونجد أن أول لهب الثورات العربية سريعاً ما امتد إلى أم الدنيا وقاهرة المعز؛ فغص ميدان التحرير في القاهرة بجميع طبقات الشعب المصري من مسلمين وأقباط مطالبين مبارك وفريق حكمه بالتنحي، وأن يترجل عن صهوة كرسي الحكم، ولكن هيهات لمن ذاق نشوة الحكم وتربع على عرش الدولة أن يرحل عنها بهذه السهولة بعد سنوات وسنوات وهو الحاكم بأمره والسيد المطاع ليعود مواطناً عادياً لا حول له ولا قوة، هذا أمر يحدث في الغرب وفي العالم المتحضر، وحدث مرة في السودان بشجاعة وحكمة غير مسبوقتَيْن في العالم الثالث، حدث ذلك إبان عهد الرئيس سوار الذهب، وقد أشاد بهذه الشجاعة والأريحية العالم كله، وحدث أيضاً مرة في جنوب إفريقيا في عهد رئاسة الرئيس الحكيم والبطل نلسون ماندلا، ولكن في بلاد العرب أوطاني هيهات هيهات للأنظمة الجمهورية أن تحدث إلا في زمن المعجزات، وهذا زمن لا نعلم متى سوف يأتي؛ فالجميع ممسكون بتلابيب كراسي سدة الحكم؛ فبريقها يصم الآذان، ويعمي حاسة الإبصار، وهكذا كان في أرض الكنانة، ورأينا سيارات حكومية تقتحم ميدان التحرير بسرعة كبيرة، وتصطدم بالمواطنين الأبرياء والعزل فتذهلهم المفاجأة؛ ليسقط البعض أرضاً فيموت شهيداً لمواقفه الشجاعة المطالبة بالحرية وتحسين ظروف المعيشة؛ ليعقب ذلك اقتحام ميدان التحرير براكبي جِمال الهرم، ثم يعقبهم راكبو الخيول ضاربين كل من يقف في طريقهم بالعصي والسيوف، وتكبر الكرة وتتدحرج على رؤوس الجميع. وفي الأخير، وبعد طول المعاناة والصبر، يسقط مبارك وابناه جمال وعلاء وأعوانهم، ويتم احتجازهم في أقفاص المحاكمة، وهكذا فلا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى إلا الحق والعدل ووجه الله، وفيما جرى في تونس وليبيا ومصر عظة وعبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وسارت شعلة الثورة متجهة جنوباً إلى صنعاء عاصمة اليمن، الذي كان يطلق عليه يوماً ما اليمن السعيد حين كانت مملكة سبأ، يوم كان الناس يتنقلون راكبين الدواب أو سائرين على الأقدام ومن يحمل معه زنبيلاً كان يمتلئ بالفواكه مما لذَّ وطاب من كل نوع دون أن يكون له يد في قطفها، وكان خلف سد مأرب بحيرة كبيرة من المياه، قبل أن يصيبه الخراب والدمار الذي أصاب كل بلاد اليمن السعيد، ويضرب أطنابه في أرجائه، ولا يزال، حتى قبض الله الشيخ زايد آل نهيان - رحمه الله - ليأمر بإعادة بناء هذا السد التاريخي العظيم أملاً بأن ينعش المنقة المحيطة به على الأقل، وأن يستفيد خلق كبير من أبناء اليمن وزائروه من هذا المشروع العملاق، وهاج الشعب اليمني العظيم وماج بكل طوائفه من شماله إلى جنوبه شيباً وشباناً نساء وأطفالاً مطالبين الرئيس علي عبدالله صالح وأبناءه وأعوانه بالرحيل وإخلاء مقاعد الحكم ومفاصله، لكن كما ذكر سابقاً من ذاق حلاوة التربع على عرش الحكم وبريقه وما فيه من برستيج لا يستطيع التخلي بسهولة عن الحكم وترك ما في يديه من مفاتيح المكانة والتمكين والتمرغ في نشوة الثروة والأمر وكونه السيد المطاع الذي يؤشر بأصبعه أو بإيماءة من رأسه أو رمشة من عينه فيُقال له «شبيك لبيك العفريت بين يديك» فيطاح برؤوس وترفع الكؤوس.. بريق السلطة والنفوذ يسكر من لا ساقي له. فكان ما كان، واستجاب رضوخاً لإرادة الشعب اليمني البطل بعد طول معاناة وصبر طويل وتضحيات، وبدأ علي عبدالله صالح وأبناؤه في التساقط على قارعة الطريق. وسواء أخطأ مبارك أو علي عبدالله صالح فهذه هي إرادة الله أولاً ثم إرادة شعوبهما، وأهالي مكة أدرى بشعابها كما يقولون، وهم أدرى بشؤون ومصلحة بلدانهم، سواء أحببنا ذلك أو كرهنا.