في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). هذا الحديث قاعدة في الجود النبوي، والجود في الشرع كما عرفه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بأنه: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة. ولما كان رمضان موسماً من مواسم الخيرات والقربات والتنافس في اكتساب الحسنات والتسابق في رقي الدرجات، كان له هذه المزية من الجود النبوي الذي صوّره لنا هذا الحديث ومن ذلك: 1. الجود بالعبادة: رمضان موسم من مواسم العبادة والطاعة، ولهذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه مزيد أهمية، فيكثر فيه من الطاعات والعبادات حتى أنه في ثلثه الأخير يتفرّغ لعبادة ربه ومناجاته، فيعتكف في تلك الليالي المباركة في مسجده تقرّباً إلى الله تعالى. إنّ الصيام والقيام وقراءة القرآن وذكر الله والدعاء والعمرة والصدقة، كل ذلك من العبادات والطاعات التي هي من مظاهر الجود وغنى النفس بالعبادة، ولهذا كان من بديع ربط الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بين الجود ومدارسة القرآن التي أشار لها الحديث قوله: قيل الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس والغنى سبب الجود. 2. الجود بقراءة القرآن: وقراءة القرآن جزء من الجود بالعبادة، لكن إفرادها هنا لمزية خاصة بهذا الشهر ذكرت في الحديث (حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن). ومن هنا فهم الإمام النووي - رحمه الله - هذا المعنى، فقال وهو يعدد فوائد هذا الحديث (واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه). إنّ رمضان فرصة عظيمة للنهل من معين القرآن الكريم قراءة وحفظاً وتدبراً، لقد أنزل القرآن في هذا الشهر العظيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. ففي الآية الكريمة كما ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (يمدح تعالى شهر الصيام من بين الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه, ثم يمدح الله تعالى القرآن الكريم (الذي أنزله هدى لقلوب العباد ومن آمن به وصدقه واتبعه) (وبيّنات) أي دلائل وحجج بيّنة واضحة جليلة لمن فهمها وتدبّرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغي، مفرقاً بين الحق والباطل والحلال والحرام. 3. الجود بالمال والصدقة: وكما تحدثنا عن الجود بقراءة القرآن فكذلك الجود بالمال والصدقة يدخل تحت الجود بالعبادة، لكن إفراده أيضاً لميزة خاصة للجود المالي في رمضان وهذا يظهر من جوانب: النص على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان (أجود الناس)، فقد كان صلى الله عليه وسلم كريماً معطاءً، يجود بالمال والعطاء بفعله وقوله يعطي صلّى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، قال الله تعالى {مّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} {البقرة/ 245}. حتى أنه صلى الله عليه وسلم عمّق هذا المفهوم في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم عملياً، سألهم مرة عن أحب المالين إلى الإنسان هل هو المال الذي بيده أو مال وارثه، ثم وضّح لهم أنه ليس للإنسان إلاّ ما أنفق وقدم لآخرته، وعمّقه أيضاً صلى الله عليه وسلم بقوله في أحاديث كثيرة منها: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ ملكان ينزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (انفق يا ابن آدم أنفق عليك) متفق عليه, وغيرها من الأحاديث التي تبيّن فضل وأجر هذه العبادة العظيمة. من أنواع الجود المالي والذي يتأكد في مثل هذا الشهر الكريم، تفطير الصائمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء) رواه أحمد. د. محمد بن عدنان السمان - المدير العام لشبكة السنّة النبوية وعلومها