يستخدم الأمريكيون والإنجليز في أدبياتهم مصطلح ترجمته الحرفية «الحس العمومي Common sense» ويكون من يحمل هذا الحس عندهم شخصاً يمكن الاعتماد عليه في أمور الحياة وشؤونها وتحدياتها، ويصعب على كاتب هذه السطور ترجمة المصطلح، ولكنه حسب تقديري يقابل في الأدبيات العربية الإسلامية الأصيلة الشخص العدل المتزن المطلع. وأقرب المفردات العربية للمصطلح المذكور هو كلمة «حصيف» وما أجملها من مفردة. أقول بعد هذه المقدمة إن الله جل وعلا اختار إلى جانبه بالأمس القريب أخي وصديقي محمد بن عبدالله (النجران) التويجري ويمثل محمد -رحمه الله- في عيني دائماً وعيون الأسرة والأقارب وشركائه في أعماله، الشخص الذي تمتع بالحس العمومي. كان محمد نموذجاً للرجل العاقل المتزن الواسع الاطلاع. كان ذا كياسة استثنائية ولباقة عجيبة، تفوق فيها على أقرانه فأضحى نموذجاً يحتذى. باختصار كان حصيفاً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. بشكل مفاجئ ألم بمحمد المرض واشتد عليه رحمه الله. وخلال أيام معدودة نقله مرضه بقدر الله من الفانية للباقية، فنعم الرجل ونعمة الميتة، سائلين الله العلي القدير نعمة الرضى بقدره خيره وشره، مبتهلين لنا وله الرحمة والعفو والمغفرة. ولكن فقد محمد كان قاسياً ولا زال. إن فقده ومن على شاكلته أشبه بمن سحب فتلة من حبل حياة محبيه وأصدقائه وأقاربه مفتول متين الفتل، يبقى الحبل حبلاً ولكنه بعد فقد إحدى فتائله أضحى حبلاً غير الحبل. لقد كان لمحمد (أبو يزيد) زاوية ومكاناً أثيراً في كل قلب من قلوب محبيه وأقاربه وأصدقائه فضلاً عن إخوته الأكارم وأخواته الكريمات وأبنائه وبناته. كان حاضراً في حياة كل منا، في حياة أسرته الصغيرة والكبيرة وحياة كل منا، حضور عقل وحضور رأي وحضور تشجيع ومشاركة وحضور حب عميق صادق.. كان كما الضوء ينعكس على كل من أحبته في حياته ونفسه بدون ثقل أو تطفل، لم يكن يعطي لنفسه أولوية في مجريات الأمور لكنه لا يستغنى عنه فيها رأياً وعقلاً ومبادرة ومشاركة.. ترسبت في ضميره وعقله وعاطفته روح الإيمان وأسس الشريعة، ورصخت فيهما روح الوطنية الصادقة واحترام ولاة الأمر ومحبتهم بدون نفاق أو تملق مشين. كان زينة مجالسنا ودواويننا يسمو بالحديث إلى مستوى عودنا عليه والده ووالدي اللذان ربطت بينهما صداقة نادرة عميقة رحمهما الله. مستوى يسمو في عالم العلم والفكر المتنور بالحوار، فكر فطر عليه في دوحة والده طالب العلم المشهود له الشيخ عبدالله بن عثمان (التويجري) ابن أحد رجالات ديوان الإمام الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمهم الله جميعاً. كانت صداقتنا وثيقة نبتت في روضة والدينا ومدرسة معهد أنجال جلالة الملك سعود رحمه الله. واشتد ساق علاقتنا الحميمة وأبناؤنا خلال حياة مليئة بالجهاد والعمل والتعاون والعاضد. لم تفتنا صلاة في وقتها بحضوره في سفر أو حضر ولا فاتتنا معه سنة ضحى أو وتر، وكان رحمه الله يبغض التشدد والغلو ويحسه ويشتم رائحته من حديث المتحدث أو أفعاله مهما توارى وراء السفسطة والسذاجة مبادراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بأسلوب يلون الحوار بألوان بهيجة مثيرة للفكر ومؤثرة في القلب وداعية للابتسامة. إن مقاييس النجاح تختلف من شخص لآخر ومن عصر لآخر، ولكن نجاح محمد التويجري في الدنيا ثابت في كل المقاييس. نجح في جميع ما تولاه من أعمال سواء ما تشرف به من أعمال القطاع العام بوزارة المالية - مصلحة الإحصاءات العامة، ثم العمل في القطاع الخاص، حيث كان من القيادات البارزة في مجموعة الحصيني. تلكم المجموعة التجارية الأصيلة المبرزة في مجالات صناعية وتجارية تكتسي دائماً بالطابع الوطني المحافظ الملتزم بمعايير عالية في التعامل والأخذ والعطاء ولذلك كان محمد غصناً نام مثمر في شجرة نامية باسقة. لكن نجاح محمد الأصيل كان في بناء أسرته الصغيرة والمشاركة البناءة الإيجابية في أسرته الكبيرة والأسر من حواليه.. أما أسرته الصغيرة فقد بناها بشهادة الواقع مع زوجه الفاضلة الحصيفة أم يزيد من خلال مكارم زرعها بعيداً عن الماديات والتشدد في حياض التربية العملية، على أساس متين من الخلق القويم والمثل الصالح هواءها الشرع الحنيف ثم هو قد شارك بشكل مشهود في خلق بيئة إيجابية لأسرته الكبيرة التي تميزت بالتعاون والتلاحم والصلة فكان فيها مع إخوته عثمان وأحمد وعبدالعزيز وعبدالرحمن وعبدالرحيم وأخواته الكريمات، مصدر محبة ورأي ناضج ومبادرة بالصلة والقربى. كما أن نجاحاً أصيلاً تمثل في الشبكة الجميلة التي نسجها بخيوط المحبة والثقة والتسامح والدعابة وربط بها أصدقاء وإخوان وأحباب غطت مساحة واسعة من الجغرافيا والمجتمع والزمان والمكان. إني أيها القارئ الكريم في الآنف من السطور كطائر حوم من علو شاهق فوق أرض واسعة ثرية من سيرة محمد التويجري في ملامحها العامة، ووصفت ما رأيت وما يراه الكثير ممن ضاق بهم جامع الملك خالد بأم الحمام والمقبرة المجاورة من يوم الجمعة الموافق للسادس عشر من شهر شعبان لعامنا الثالث والثلاثين بعد الألف وأربعمائة لهجرة سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، حينما انتظم عقد الأقارب والمحبين، وهم كثر للصلاة عليه ودفن جثمانه الطاهر. واعلم علم اليقين أن أبناءه ومحبيه وأصدقاءه سوف يتحدثون في التفاصيل من سيرته وخلقه وذكرياته رياضاً مزهرة وهضاباً مشرقة، مستقين منها حافزاً للمزيد من العمل والقربى وترسيخ ما نسجه من نسيج جميل في قماش سندسي أخاذ غطى أسرته وأسرنا والحي والمجتمع حواليه. رحم الله فقيدنا وألهمنا وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان. عبدالإله بن عثمان الصالح - جدة