تتنامى حسراتك وأنت تتوق لأن تعود روابطك بالآخر في أيّ مكان يكون لك هذا الآخر، قريباً تعيش معه, أو صديقاً تلتقيه مراراً، أو يكون لك عابراً في مكان عام، بل أيضاً حين تحمل نفسك إليه جواً أو برّاً، أو نحواً من المسافات أقرب, تتوقّع وقتاً معه يشبعك حديثاً واهتماماً وتبادلاً ودوداً في العلاقة بينكما، فلا تجده إلاّ منشغلاً بثرثرة الإفضاء، أو بالإصغاء،.. بمثل ما أصبح نموذجه رفقاؤك تحت سقوف لا تلتقي بهم داخل جدرانها إلاّ أجساداً، كأنها الصمّاء آذانها، الخرساء ألسنتها.. إن اجتمعت بهم هم هؤلاء، وإلاّ فكلٌّ منهم في ركنه يلوذ بثرثرته الصامتى نحواً بعيداً عنك.. تتنامى حسرتك على غربة واسعة تحتويك، وأنت في وسط يضجّ حركة، ويكتظّ هياكل بشرية، في كلِّ مكان، ضاقت حجراته، أو اتسعت ساحاته.. فالكل يثرثر صامتاً.. لا يتحدث معك، وهو مع الآخر الخفي عنك بحركة العيون، والأصابع.. أجهزة صغيرة مدّ الكف، أو أقلّ، أو أكبر قليلاً هي الرفيقة الصديقة، الآذان له، والعيون لها، وكل ما يُشغل المرء، وينشغل عنك به.. لا تحظى من لقائك بهم إلاّ بهمهمات، أو نعمات، أو لاءات، أو جملة وجملتين.. أوّلها تحية اللقاء, وآخرها تحية الذهاب، وكأنك واحد في غابات من وحشة الانعزال.. لحظتها تقرُّ: عبقري هذا الذي صنَّع هذا المنجز الصغير بكلِّ قدراته على استيعاب عقول البشر ووجدانهم، لكنه مجرم كبير حيث نقض جدران علاقاتهم، وقدر على استقطاب أصواتهم، وأغرقهم في لجج الثرثرة، لكنه علقهم في مشنقة الغربة عن بعضهم، العزلة في توحُّدهم.., والانشغال عن روابطهم.. كلُّهم يثرثرون في وجود بعضهم ، لكنهم لا يسمعون بعضهم.. خطير هذا الواقع الذي يحياه المرء في ضوء جاذبية ما يغرق فيه بين يديه.. فإن لم يقنن استخدامه، ويعلم أن لا بقاء لما يذر في الهواء.. وإن حمله الهواء لذات قرار.. فإنه سينتبه ذات لحظة فقد جائر، ويكون فيها قد خسر كل الذين قضت ثرثرته الصامتة على علاقته بهم، بانطفاء نبض كان حياً في القربى ، والصداقة، والمعرفة بينهم، تلك التي نسيها في حياته ذات غرق.. إذ قد عمت الثرثرة الصامتة نحواً عميقاً في عمق أوتاد هذه العلاقات، ونخرت فيها بعيداً.., فليتها لا تزيد.. عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855