نعم إنه عام الحزن، فالكواكب تغيب من سمائنا كوكب ويليه كوكب، فبالأمس سلطان الخير وحزن الوطن وأهله، واليوم نايف الأمن والأمان ليعصر فيها الألم أفئدة الشعب السعودي وأبنائه على ولي العهد الأمين، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية. فهذا الرجل العظيم قاد البلاد وأمن أهلها قيادة حسنة جعلت الجميع يشعرون بالأمن والأمان، ويشعرون بأنهم أبناء وأخوة له، لما لمسوا فيه من صدق الرعاية, وحضور الأمانة, وحياة القلب، وقوة العقل, ويقظة الضمير. لقد اجتمعت فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره من رجال زمانه -رحمه الله- فهو السياسي المحنك والإداري الناجح والعسكري الخبير والإنساني الحي وشواهده - رحمه الله - على كل صعيد من هذه الأصعدة مشهورة وكثيرة. إن رحيل نايف الأمن والسلام لفاجعةٌ لا يُهَوِّنُها إلا أن مآثره -رحمه الله- ستظل حية بين الناس وشاهدة لصنائع معروفه وأياديه البيضاء التي أفاد منها كثير لا يعلمهم إلا الله، ووصل خيرها للقاصي والداني، فكان مضرب مثل في الكرم والجود، وها هو اليوم يرحل حاملاً أطيب ذكرى وأجمل سيرة. وفي هذه المصاب الجلل الذي نودع فيه رجل الدولة والإنسانية والأمن والاستقرار، الذي امتلأ تاريخه الطويل الحافل بالنجاحات وجهود البناء أجد أن هناك العديد من الدوافع التي تحملنا على قراءة بعض صفحاته المسطَّرة بمداد جهده وعمله الدؤوب. رحم الله نايف بن عبد العزيز.. فقد كان على مدى حكمه وولايته ركناً مهماً من أركان الدولة السعودية، وله دورٌ وبصمةٌ واضحة في كل مجالات الحياة، وكان بما تولاه من مناصب ومهمات كبيرة، يجمعُ بين الحزم الذي تتطلبه هذه المهمات، وبين الجانب الإنساني الذي طبع شخصيته، حتى استطاع أن يجعل من وزارة الداخلية التي عُرفت في العالم أجمع بأنها قطاع لحفظ الأمن والأمان فقط، مجالاً للعمل الإنساني فأصبحت من خلال جهوده وسياسته ومبادراته -رحمه الله- سبّاقة في كل الميادين. لقد كان (نايف الأمن) قوة ضاربة بجذور ثباتها على الحق إلى أبعد مما يتخيل الحاقدين، وشامخاً بعلو مكانته في قلوبنا ونبل أخلاقه إلى أبعد من مد بصر المبطلين، لقد كان أمة في رجل واحد، وحمل الأمانة التي لا يحملها إلا أولو العزم من الرجال وتقلد مناصب عديدة فقد كان وكيلاً لإمارة منطقة الرياض، ثم أميراً لمنطقة الرياض، ثم نائباً لوزير الداخلية، ووزير الدولة للشؤون الداخلية، ووزيراً للداخلية، وتولى ولاية العهد ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. لقد أخذ على نفسه العهد -رحمه الله- بأن يؤسس ويجتهد لتحقيق نجاحات الدولة ورفاهية أبنائها, وانقطع إلى ذلك انقطاعاً كاملاً واهباً نفسه ووقته للوطن، وقاد ركب تنمية وتطوير المؤسسات الأمنية على الصعيدين العربي والعالمي، فاهتم بتطوير القدرات البشرية بالتعليم والتدريب المستمر، وعصرية الإدارة وتحديث الأنظمة بكل ما هو جديد، والاهتمام بالبنية التحتية، من خلال التطوير والتحديث التقني المستمر، ولقد أثمرت جهوده -رحمه الله- عن تنمية شاملة لقطاعات العمل الأمني والتي منها (المديرية العامة للدفاع المدني-المديرية العامة لحرس الحدود -المديرية العامة للأمن العام- المديرية العامة للمباحث- المديرية العامة للسجون- قوات الأمن الخاصة- المديرية العامة للجوازات- قوات أمن المنشآت- المديرية العامة لمكافحة المخدرات). وكذلك أولى اهتماماً خاصاً بالملفات الأمنية، رافعاً راية «الأمن الشامل شراكة بين المواطن والمؤسسات الأمنية»، ولا يسع أي شخص على المستوى الوطني أو الدولي أن يتحدث عن المعالجات الفكرية لقضايا التطرف والإرهاب دون أن يكون الحديث منصباً على نايف الأمن والأمان، فهو وبحق أول من أدخل مفهوم الأمن الفكري في منظومة الأمن السعودي، وهي تجربة أشادت بها العديد من المنظمات الدولية، وطالبت بقية دول العالم بالاستفادة منها في مواجهة الإرهاب، فقد أرسى دعائم القيم الأمنية النبيلة ومحاربة الفكر بالفكر، وأكَّد -رحمه الله- أن ذلك أجدى وأنفع من محاربته بالسلاح والقوة فقط. وفي سبيل ذلك أسس إدارة خاصة في عام 1427ه/ 2007م تحت مسمى إدارة الأمن الفكري التي تتضمن تنظيم وزارة الداخلية الإداري، وتولى تأسيس وتمويل كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري بجامعة الملك سعود في عام 1428ه/ 2008م، وقام بتمويل كرسي الأمير نايف لدراسات الوحدة الوطنية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عام 1429ه/ 2009م، كما شجَّع ودعم عشرات الدراسات والأبحاث الخاصة بظاهرة التطرف وارتباطاتها، ووجَّه بتشكيل فريق عمل من أساتذة الجامعات لوضع خطط إستراتيجية للأمن الفكري العربي. وكذلك كلََّف فريق عمل كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري لوضع إستراتيجية وطنية شاملة للأمن الفكري في عام 1431ه/ 2010م. وفي مجال مكافحة المخدرات وضع قواعد الخطة الإستراتيجية للعمل المؤسسي في مكافحة المخدرات، فأسس الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في جهاز وزارة الداخلية مع إدارة أمنية متخصصة في الأمن العام (استقلت إلى قطاع) لمواجهة هذه الظاهرة على كل المستويات، وأسس اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات في 1428ه، وعَقد عدداً من الاتفاقيات الثنائية والإقليمية الدولية بما يحد من انتشار هذه الآفة وتفاقمها. وقد امتدت أياديه البيضاء - رحمه الله - إلى المستوى الدولي فقد تولى الإشراف على لجان وحملات الإغاثة والعمل الإنساني لمشاريع التبرعات الشعبية والحكومية التي تتبناها وتقدمها المملكة للشعوب العربية، ودعم جهود الإغاثة للشعب الفلسطيني، واعتمد تنفيذ العديد من المشروعات الإنسانية للمتضررين في الحروب، وتقديم المساعدات الغذائية، ودعم الأسر الفقيرة والجرحى والمعوقين وكفالة الأيتام ودعم التعليم الجامعي، وبناء المساكن الخيرية، وتقديم الأدوية والمستلزمات الطبية وبناء المراكز المتخصصة لعلاج الأورام السرطانية. إنه الإخلاص في أجل صوره والأمانة في أوضح أشكالها، والمثالية المطلقة في الحرص على الوطن وأبنائه، كما تولى -رحمه الله- دعم جهود الإغاثة للشعب الأفغاني، وأنشأ اللجنة السعودية لإغاثة كوسوفو والشيشان، وإغاثة المتضررين من كارثة تسونامي في إندونيسيا، وإغاثة المتضررين من الزلازل والفيضانات في الدول المتضررة، كما تولى الإشراف العام على الحملة الوطنية لمساعدة متضرري مجاعة الصومال، لقد كان وبحق كالسحابة الممطرة أينما تذهب يحل الخير والنماء. وهنا أستعيد كلام صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- بقوله: «إنه أحد الذين اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، لا يتوانون عن فعل الخيرات، يتسابقون لمد يد العون لمن ينشده، يتحسسون آلام الآخرين، ويهرعون إلى تضميد جراحهم». ومَن كانت هذه مآثره فإنه لا يموت أبداً, بل إن الحياة الحقيقية هي حياة المآثر, حياة الذكر الحسن, والسيرة الطيبة, وحسبنا دلالة على قيمة هذه الحياة الثانية التي يعيشها الميت بين الأحياء أن النبي إبراهيم عليه السلام سألها ربه بقوله: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين). إلا أن هذا الأمل عسير التحقق، لا يُوصَل إليه بمجرد الكلام، بل بتراكم الأعمال الإنسانية الصالحة وملأ الحياة بالعمل الدؤوب، وهذا ما قضى المغفور له بإذن الله سيدي سمو الأمير نايف حياته عليه, وكم من ميت انقطع ذكره بموته, ونسيه الناس بعد رحيله, وهؤلاء كثيرون, أما من يظل حياً بمآثره، ويداوم الناس الترحم عليه بعد موته فهم قليلون, أو قليلون جداً, لأن صناعة الحياة بعد الموت أمر لا يطيقه إلا العظماء. ولو تأملنا في حياته ومماته - رحمه الله - لوجدنا أنه كرم العلماء فاستحق أن يدفن بجوارهم في أطهر بقاع الأرض، فقد كان في خدمة العلم والمعرفة، حيث أنشأ -رحمه الله- جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية التي كان -طيب الله ثراه- يترأس مجلس إدارتها والتي نهضت بتطوير الخبرات الأمنية والعدلية وتقديم برامج ومؤتمرات دولية تستفيد منها الدول العربية، وتمنح شهادات الدبلوم والماجستير والدكتوراه، كما أنشأ جائزة السنة النبوية كجائزة عالمية مخصصة لدعم الباحثين والعلماء في مجالات السنة وعلومها، وكذلك مسابقة الأمير نايف بن عبد العزيز لحفظ الحديث النبوي تلك المسابقة التي تعنى بحفظ الحديث النبوي الشريف وذلك في عام 2006 م، وأنشأ الكراسي العلمية محلياً ودولياً: (كرسي الأمير نايف للوحدة الوطنية- كرسي الأمير نايف للأمن الفكري- كرسي الأمير نايف للقيم الأخلاقية)، وقدَّم المنح العلمية، إذ يتلقى عدد من الطلاب دراساتهم العليا داخل المملكة وخارجها بمنح علمية منه -رحمه الله- في تخصصات مختلفة. ودعم الجمعيات العامة والعلمية، ذلك أنه -رحمه الله- كان يدعم نشاطات العديد من المؤسسات العلمية والعامة منها (الجمعية الوطنية للمتقاعدين، الجمعية السعودية الخيرية لرعاية الأسر السعودية في الخارج «أواصر»، الجمعية السعودية للاتصال والإعلام)، واهتم كذلك بالأقسام العلمية فأنشأ قسم الدراسات الإسلامية بجامعة موسكو 1416ه/ 1995م، وكان كذلك داعماً وراعياً للجوائز ورعاية المؤتمرات والفعاليات العلمية والوطنية التي من شأنها أن تدفع بقاطرة الإنجاز الوطني والعلمي إلى طور النجاح والتميز، فأنشأ جائزة السنة النبوية ومسابقة حفظ الحديث النبوي الشريف، وجائزة الأمير نايف للسعودة، ومؤتمر ومعرض الصحة والسلامة المهنية الثاني الذي تنظمه المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والندوة الثانية للإصلاح والتأهيل في المؤسسات الإصلاحية تحت شعار (السجين والمجتمع)، والمنتدى الإعلامي السنوي للجمعية السعودية للإعلام والاتصال، والمنتدى الدولي للشراكة المجتمعية في مجال البحث العلمي، والندوة السنوية (الأمن مسؤولية الجميع)، والندوة السنوية (المجتمع والأمن)، ومؤتمر الأسر السعودية والتغيرات المعاصرة، والمؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري – جامعة الملك سعود، وملتقى الدراسات الدعوية وندوة ترجمة السنة النبوية، والمؤتمر الوطني ال 19 للحاسب في جامعة الملك سعود بعنان الاقتصاد الرقمي وصناعة تكنولوجيا المعلومات، والمؤتمر الإسلامي الثاني لوزراء البيئة، والمؤتمر الأول لشعبة الهندسة الصناعية في الهيئة السعودية للمهندسين، ومؤتمر (سلامة وصحة الحجيج)، والمؤتمر الدولي الأول للسياحة والحرف اليدوية، ومؤتمر حقوق الإنسان في السلم والحرب، والمؤتمر العربي الثاني لرؤساء النيابات العامة، والمؤتمر العربي السابع لرؤساء أجهزة الإعلام والاجتماع المشترك مع وسائل الإعلام العربية. والحقيقة أن الشعور بفقد الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- قريب من الشعور بفقدان الأب والأخ والحبيب، لأنه في الواقع كان أباً للجميع، ولذلك فإن من حقه على كل واحد منا اليوم الدعاء له، فقد كنا محتاجين له في حياته، وصار هو اليوم محتاجاً لنا بعد رحيله، وهو لا يريد منا غير الدعاء، الدعاء الصادق له بالرحمة والمغفرة والجنة، وهذا أقل واجب له علينا، ولا يفرط فيه إلا جاحد. وأنا على ثقة بأن أبناء المملكة جميعاً رجالاً ونساءً بل وأطفالاً لن يقصروا في الدعاء له، وستشاركهم في ذلك أمم خارج المملكة، داعين له مترحمين عليه. وفي الختام، لا أملك إلا أن أرفع العزاء الحار في وفاة سموه الكريم -رحمه الله- إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله وأطال في عمره- ولكل أبناء الفقيد وذويه وإخوانه، وللشعب السعودي والأمة الإسلامية عامة، سائلاً الله أن يجبر مصابنا بفقده، وأن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته. ونسأل العلي القدير ألا يحرمه أجر ما قدمه من أعمال، وأن يجعلها شفيعاً له. وإن كان نايف الأمن والأمان قد رحل عن عالمنا بجسده، فقيمه وسيرته وأعماله باقية بيننا، وعزاؤنا في أبناء وأحفاد الملك المؤسس - رحمه الله - الذين سيظلون سائرين على نهجه، ليكونوا دوماً يد خير أينما حلوا، وفي مقدمتهم سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وإخوته الكرام -حفظهم الله. أدام الله عز الوطن، وأدام شموخ وعلو همة قيادته الرشيدة لتظل راية التوحيد عالية خفاقة في عنان السماء. رئيس اللجنة الوطنية للتعليم العالمي والدولي بمجلس الغرف السعودية