لا يكفي أن تحقق أي دولة نمواً اقتصادياً لكي يشعر مواطنوها بارتفاع مستواهم المعيشي.. فقد يكون العكس هو الصحيح أحياناً..! وبالرجوع إلى النظريات الاقتصادية، نجد أن واحدة من أشهر النظريات التي تناقِش العلاقة بين «النمو الاقتصادي» و»توزيع الدخل» هي نظرية عالم الاقتصاد الشهير «سيمون كوزنتس».. فهو يرى - من خلال دراسة تاريخ التنمية الاقتصادية في العديد من الدول - أن توزيع الدخل يزداد سوءاً في المراحل التنموية الأولى. وهذا يعني أن الدول التي تبدأ في تحقيق تنمية اقتصادية ستكتشف في البداية أن التنمية المتحققة لا تعم كل المواطنين بنفس النسبة مما يجعل الأغنياء يحصلون على نسب متزايدة من الدخل على حساب النسبة المتناقصة من الدخل الذي يذهب إلى الشرائح الفقيرة.. ولكن تأتي بعد ذلك مرحلة ثانية تستقر فيها العلاقة بين النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل، وأخيراً - في مرحلة ثالثة - يتحسن توزيع الدخل بين مواطني البلد عندما يحقق الاقتصاد مستويات متقدّمة من النمو والتنمية الاقتصادية. هذه العلاقة التي اكتشفها «كوزنتس» منذ الخمسينيات الميلادية من القرن المنصرم ما زالت تثبت مصداقيتها حتى الآن في كثير من البلدان التي تحقق نمواً اقتصادياً لكنها في الوقت ذاته تعاني من تزايد سوء توزيع الدخل بين مواطنيها. وعلى سبيل المثال، من المعروف أن الصين والهند حققتا معدلات عالية من النمو الاقتصادي خلال العقدين الماضيين.. لكن المدهش أن هذه التنمية صاحبها تناقص في عدالة توزيع الدخل بين المواطنين في كل من البلدين..! وهذا لا يعني أن الناس أصبحوا أكثر فقراً من السابق بقدر ما يعني أن الفجوة التي تفصل ما بين دخل الفقراء ودخل الأغنياء أصبحت أكثر اتساعاً.. وبالتالي يشعر الفقراء بأنهم صاروا أكثر فقراً من السابق لأن الجانب الاقتصادي من حياة الناس يتأثر في كثير من الأحيان بالمقارنات مع الآخرين، كما أن الاحتياجات والرغبات تتزايد عندما يرتفع المستوى الاقتصادي للإنسان. وقد قرأت مؤخراً أن أعلى مستويات الدخل الفردي في العالم يتمتع بها مواطنو دول معينة يأتي من ضمنها بلدان خليجية، حيث احتلت دولة قطر المرتبة الأولى بين دول العالم في متوسط دخل الفردي الذي بلغ 88 ألف دولار سنوياً واحتلت الكويت المرتبة السادسة، إذ بلغ متوسط دخل الفرد 48 ألف دولار سنوياً. هذه نتائج جيدة حتى وإن كان مصدر الدخل هو البترول والغاز، وهما يمثّلان دخلاً ريعياً ليس له علاقة بإنتاجية الفرد في البلدين، بعكس سنغافورة التي جاءت في المرتبة الثالثة بمتوسط دخل للفرد يبلغ 75 ألف دولار أو النرويج التي جاءت في المرتبة الرابعة بدخل للفرد يبلغ 52 ألف دولار.. ومعلوم أن الاقتصاد في هذين البلدين ليس اقتصاداً ريعياً، بل يرتبط بإنتاجية الفرد في قطاعات وأنشطة مثل الصناعة والخدمات وغيرهما. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يترتب على هذه النتائج لا يقتصر على مصدر الدخل فقط وإنما يتعلّق بتوزيع الدخل أيضاً. ومن المؤسف أنه لا توجد دراسات موثَّقة ذات قيمة كبيرة عن توزيع الدخل بين المواطنين في الدول العربية، وما يحدث لعدالة توزيع الدخل من جرّاء تحقيق المزيد من التنمية الاقتصادية.. وهذه ثغرة يتعيَّن سدها بدلاً من تركها للتخمين الذي قد ينحو إلى المبالغة والقفز إلى استنتاجات تستند إلى التوجهات السياسية للمعلقين بدلاً من الاعتماد على الحقائق. [email protected] ص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض