لو كان بيدي أن أقلب هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية رأسا على عقب حتى يصبح مائدة صحراوية بدلا من هرم!. فلا أدري ما نفع المال والسكن والنوم والجنس والأمن والصحة, في وجود العزلة والكراهية واحتقار الذات والخمول الاجتماعي وغياب الحب؟! طبعا أقول هذا لأني أعكس المستوى الثالث والرابع الذي ينص على (الصداقة والحب والزواج والحاجة للتقدير وتحقيق الذات). ترتيب الاحتياجات تغلب عليه المادية. والاعتبارات الروحية والعاطفية مؤخرة فيه. إن سلمنا جزافا بأولويات ماسلو, ما هي نوعية الحياة التي يكون فيها الإنسان مشبع الجسد والجيب دون قيمة روحية؟!. تخيل نفسك بلا هموم إنسانية تتعلق بتأمين المسكن والغذاء والجنس والأمن. سيكون لديك متسع كبير من الوقت. وقت فراغ ينطبق عليه كلا التعريفين: فراغ كميّ, وفراغ فكري وروحي. تخيل أن تعطي طفلك لعبة ثمينة, ولكنه يلتفت ليبحث عن صديق يشاطره اللعب فلا يجد إلا الجدران. جدران المسكن الذي يعتبره ماسلو قاعدة الهرم!. إن ألم العزلة والفراغ والاغتراب والحاجة للحب والمشاركة لا تقل عن ألم فقدان الأمن والمسكن, لا تقل ألما عن الجوع!.. ما الذي دفع شبابا لديهم قدرة مالية لشراء كامري موديل 2012 قيمتها تتراوح ما بين (80 - 100) ألف للمجازفة تلك؟. أتحدث عن حادثة الجمعة الأخيرة من الشهر الفائت التي أودت بحياتهم بشكل مروع حطم السيارة تحطيما بالغاً وتطايرت أوصال وسالت دماء. الحادث الذي انقلبت فيه السيارة سبع مرات خلال أقل من نصف دقيقة!. ما الذي يدفع شبابا لاقتحام مستشفى عرقة المهجور للبحث عن الجن؟. ما الذي يجعل فوز المنتخب الوطني أو أحد الفرق الرياضية مسرحا هزليا للمهرجين ومثيري الشغب؟!. ما الذي يجعل إمضاء ساعات النهار كلها في تبادل كاستات البلاك بيري أمرا ممتعا وهيّنا؟! خذ نفسك يوم الأربعاء من نهاية أي أسبوع لمطار الملك خالد. وتلفت حولك, وعُدّ كم شابا في العشرين يخرج من الرياض؟! خذ جولة في الشوارع والأسواق, وانظر بماذا يحاول الشباب أن يمضي الوقت الثقيل الخاوي!. إنها حيل الشباب المستقر (القرار الأهم بموجب هرم ماسلو) في التخلص من ألم فقدان الذات وغياب الحب والقيمة!. هؤلاء ليسوا هاربين من ضغوطات مادية, ولم يجندوا في الجيش ولم يعيشوا في بلد تحت خط الفقر أو النار. ولا يشغلهم ما يشغل بقية شباب العالم (العلم والابتكار, المال, الحب, تحقيق الذات). وهم فوق ذلك جهلاء. فالجهل يعقد المشكلة. لأن الجاهل لا يستطيع تشخيص حالته, ولا يدرك احتياجاته. تماماً مثل طفل يصرخ ويعربد ولا يعرف أن التهاباً في أذنه!. إنه العطش السحيق لقيمة حقيقية الذي يحاولون إرواءه بالماديات والهراءات!. صديقي العشريني العائد من أمريكا بعد غياب عام ونصف تقريبا. والذي دفعه الشعور بضياع الطاقات والفراغ لأن يسافر. سيعود بعد أيام للوطن. كان بحاجة للتقدير كونه عبقري, مُفكر, نظراؤه قليلون. سألته: وحشتك البلد والأهل؟ قال: «الأهل نعم».. قلت: ألم تتعب من اللا انتماء؟ قال: بالعكس أنا وجدت انتمائي هنا. لدي عضوية في أكثر من منظومة فكرية. بعد رحلة بحث طويلة عن ما يوافق تفكيري وتوجهاتي. هذه البلاد لملمت شتاتي واحتواني الناس!. أقول أنك لو امتلكت العالم رهن يمينك وفقدت القيمة والروح والحب والتقدير والأصدقاء.. فإنك ميّت. وهرم ماسلو ذاك إما نتيجة أو سبب لحضارة الفراغ التي حنطت الحياة وحولتنا إلى روبوتات مبرمجة فقط لجمع المال وإشباع الغرائز!.. [email protected]