تكلمنا في موضوعٍ سابق عن كتاب «الغوريلا الخفي»، وهو كتاب كتبه العالِم النفسي كريس شابري يوضح عدة أوهام يقع البشر ضحايا لها بدون علمهم، وفي المرة الأولى رأينا وهم الانتباه، أما النقطة الثانية التي يناقشها الكتاب فهي ما يُسمى «وهم التذكُّر»، وسنبدأ باستفتاء ظريف أظن أكثرنا يوافق إجاباته، فصنع الكاتب استبياناً لألف وخمسمائة شخص، فقال قرابة النصف إنك إذا سجل عقلك ذكرىً فإنها لا تتغيّر، وقال 63% إنّ الذاكرة شبيهة بكاميرا الفيديو التي تسجل الشيء بدقة، وهذا رأي الكثير، فالثقة كبيرة عند الناس في ذاكراتهم، تصل إلى الأيمان المغلّظة والشتائم والمشاحنات إذا ما شُكِّك فيها! لكن الذاكرة لا تستحق أن نعتمد عليها اعتماداً كاملاً، فالمقلق أنّ العقل لا يفرق بين ذكرىً حقيقية ومصطنعة، فكلاهما سيبدوان لك صحيحاً، ولهذا يَذكر الكاتب أنّ السجون الأمريكية فيها الكثير من الأبرياء الذين لم يُدخلهم السجن إلاّ شهادات أناس ظنوا أنهم يتذكّرون وجْه الجاني فشهدوا على من لا ناقة لهم ولا جمل، ولبثوا في السجون آماداً إلى أن بدأ العلم الحديث يخرج بعضهم باستخدام فحوصات الحمض النووي. نعم، الذاكرة شديدة القصور، وهذا من أسباب كون أرقام الهاتف لا تتجاوز 7 خانات لأنّ هذا ما وُجِد أنه الحد الأقصى لقدرة البشر على التذكُّر بسهولة، ولهذا أيضاً لوحات السيارات عادةً لا تتجاوز هذا العدد. وإذا كنت تعتقد أنّ أوهام العقل في التذكر لا تخص إلاّ الماضي فأنت واهم! حتى الذاكرة المباشرة بالغة القصور، وهو ما سمّوه «عمى التغيّر»، وتعنى عَمَانا عن تغييرات مباشرة تحصل أمامنا، فتجارب كثيرة صنعها الكاتب أظهرت هذا، منها مقاطع قصيرة يصوّرها ويطلب من المتطوّعين مشاهدتها، ولا يأخذ المقطع إلاّ وقتاً قصيراً، وهو عبارة عن ممثل يدخل في غرفة ويجلس ويقرأ شيئاً ... إلخ، مقطع عادي، ولكن الكاتب غيَّر أشياء كثيرة عمداً، ففي مشهد نرى منديلاً على المكتب، بعدها بثوانٍ يختفي، ونرى أنّ جزءاً من ملابس الممثل لونه أحمر وفي المشهد التالي يصير أزرق، وهكذا، ووجد في النهاية أنه لم ينتبه حتى شخصٌ واحد لأي من هذه التغييرات الكثيرة! هذا رغم أنّ 90% منهم قالوا واثقين أنّ تغييرات مثل هذه يمكنهم ملاحظتها بسهولة. أريد التنبيه أنّ هذه كلها تنطبق علينا، فهذه عينات عشوائية وتمثّل أي إنسان عادي حول العالم، ومن التطبيقات التي جربوها تجربة تأخذ هذه الفكرة إلى أقصى حدودها، فإنّ المشاهدين لما عرفوا أخطاءهم قالوا إنّ تلك كانت مجرّد تغييرات بسيطة وأنه سينتبهون للتغييرات الكبيرة، فصنع الكاتب فيلماً قصيراً آخر لرجل جالس على مكتب. يقوم الرجل ويمشي تجاه الكاميرا ويظهر وجهه واضحاً لخمس ثوانٍ على الأقل، وفي المشهد الذي بعده نرى أنّ الكاميرا صارت في الرواق خارج المكتب، ونرى الشخص يخرج من باب المكتب إلى هذا الممر، يأخذ هاتفه الجوال ويتكلم قليلاً، وينظر إلى الكاميرا ونرى وجهه لخمس ثوانٍ ثم ينتهي المقطع. تطوّع عدد من الناس للتجربة، ولما سُئلوا لاحقاً قالوا إنهم لم يروا أي شيء غريب، ولم يدروا أن الشخص الذي كان في المكتب والذي خرج من المكتب لم يكونا نفس الشخص! أظهرت الكاميرا وجه هذا ووجه ذاك واضحين ومع ذلك كانت نسبة النجاح في تمييز هذا التغيير (الكبير) صفر في المائة! أتى عالِم وقال إن هذه قائمة على الفيديو فقط، وأن الناس لو مروا على مثل هذا في الحياة الواقعية للاحظوا، فهب الكاتب وصنع تجربة أخرى، وهنا أريدك أن تتخيل هذا الموقف: أنت تمشي في الشارع، يستوقفك شخص ويسألك عن مكانٍ ما، فتبدأ وصف الموقع له، وبينما أنت تشرح وإذا باثنين من العمال يقاطعانك ويفصلان بينك وبين السائل لأنهما يحملان باباً خشبياً، وأثناء غياب السائل عن بصرك يتغير السائل ويحل مكانه شخص آخر يشبهه، هل ستلاحظ هذا التغيير؟ ستقول نعم. طيّب ماذا لو أن الشخص الجديد لبس ملابس مختلفة قليلاً وصوته مختلف وهو أطول من الأول بقرابة 8 سم وحتى حجم جسمه يختلف قليلاً؟ حينها ستحلف بالله أنك ستلاحظ هذا الفرق! وقد قال 95% من المتطوعين أنهم لو مروا بموقف كهذا لميّزوا أن الشخص الثاني غير الأول، ولكن لما حدثت هذه التجربة أخطأ نصف المتطوعين تمييز الشخص الآخر، وبعد أن مر العاملان بينهما وأخذ الممثل الجديد محل الأول أكمل المتطوّع شرحه وهو يظن أنه يكلم نفس الشخص! هذا وهم التذكُّر، لا تغضب مما سأقوله لأنني سأعتمد على كلام العلم والتجربة: ذاكراتنا... «خرابيط!»