ذكرى البيعة ليست كأي ذكرى, إنما هي ملحمة فريدة تتجسّد فيها كل المعاني السامية والغايات النبيلة وتكسوها وتغلفها الشريعة الإسلامية السمحة بكل ما فيها من سمو وعزة ورحمة وعدل وخير وإنسانية، والناظر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ليدرك كم هي عظيمة وسامية هذه الشريعة الخالدة الغراء.. إذاً البيعة والإمامة والولاية الراشدة ليست مجرد ملك وولاية وحكم، فإن هذه المعاني تعني للحاكم: المسؤولية والأمانة والمحاسبة بين يدي الله تعالى والتبعة العظيمة والحمل الثقيل الذي يورث الهم والكدر، وما أروع ما عبَّر به خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - عن ذلك بقوله تلك العبارات التاريخية التي تضمنت مبدأ الشراكة والمصير الواحد بين القيادة والمواطن وعلى أساس العقيدة الإسلامية الواضحة وذلك عندما قال: (أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أتخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً وأن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة ثم أتوجّه إليكم طالباً منكم أن تشدوا أزري وأن تعينوني على حمل الأمانة وأن لا تبخلوا علي بالنصح والدعاء)... وهي أنها للمحكوم: وجوب البيعة ووجوب السمع والطاعة والأثرة والنصرة على كل حال في العسر واليسر والمنشط والمكره, والصبر على كل ما قد يلقاه في سبيل ذلك. ولكن البيعة والإمامة والولاية الراشدة تقتضي، كذلك الدعاء الخالص والمحبة الصادقة الخالصة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم بين الإمام والرعية، وهذه المحبة هي في الحقيقة معيار الخيرية للإمام والحاكم إذ هي التي تنبئ عما وراءها من تحقق العدل والرحمة من جانب الحاكم، والبيعة الصادقة والطاعة الخالصة والنصرة والتأييد والولاء والوفاء من جانب المحكوم.. يقول صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم), فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأئمة هم من كان بينهم وبين رعيتهم حب متبادل ودعاء متبادل وتواصل وتناصح بالمعروف، وهذا في حقيقته مثل المؤمنين الصادقين المخلصين الذين يكونون كالجسد الواحد كما جاء في الحديث: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).. هذا اليوم المجيد 26- 6 من كل عام الذي يذكرنا باليوم الذي تمت فيه البيعة لملك الإنسانية والوفاء والعطاء والكرم والبذل والرحمة والمواقف العظيمة، والحوار المنضبط والعدل والتراحم . الرجل الذي قال فصدق، ووعد فأوفى، وأعطى فأجزل وأحب فملك القلوب ورفع شأن بلاده على جميع المستويات العربية والإسلامية والدولية، وأكرم العلم وأهله.. ملك صالح عادل راشد حارب الفساد والإفساد وقمع الإرهاب والإرجاف، ودحر الفكر الفاسد الضال، ومنع الفتاوى الشاذة، ووقف مع الحق والعدل ونذر نفسه ووقته لخدمة الدين والوطن ونصرة العرب والمسلمين وقضاياهم العادلة، ومنع الظلم واصف المظلومين، وبناء هذا الوطن وتوفير وسائل الراحة والأمن والطمأنينة لساكنيه. وإن ما أنعم الله تعالى به على هذا الملك الراشد تلك المحبة التي جعلها الله تعالى في قلب كل مواطن ومواطنه, بل تعدّى ذلك إلى كل مسلم ومسلمة, بل تعدّى ذلك إلى الناس كافة حتى لقبه العالم بلقب ملك الإنسانية وملك القلوب, والملك العادل، والملك الراشد، والملك الصالح تلك الألقاب التي سما تواضعه على استعمالها في حقه فحرّج على محبيه ألا يلقبّوه بها.. ولم تكن أبداً تلك المحبة من فراغ أو بلا سبب بل تعددت أسبابها، ففضلاً عن كونها حق شرعي له, إلا أنها كانت بما لمسه كل مواطن ومواطنة في مشاعره من صلاح وتقى وحب أبوي عظيم وطيبة صادقة عز نظيرها ورحمة لمسها كل مواطن فيه - أيّده الله - وإنسانية ترجمها - حفظه الله - في أعمال وإنجازات عظيمة غير مسبوقة، إنجازات كانت مجرد أحلام وآمال وتطلعات، فتحولت بفضل الله أولاً ثم بفضل دعمه ورعايته إلى حقيقة ماثلة لكل متابع على أرض الواقع؛ وقد عبّر - حفظه الله - عن ذلك في إحدى المناسبات بقوله: (إن الأماني والطموحات لا تتحقق بالأحلام؛ بل بالإرادة الصلبة والعزيمة الصابرة والعمل الذي لا يعرف الملل، وقبل ذلك كله التوكل على الله ).. فهذه الإنجازات تعني لكل مواطن الكثير والكثير من المعاني، حيث يجد فيها المواطن صدق التوكل على الله والأمن والأمان والاطمئنان في حاضره والاستشراف لمستقبله وغده المشرق - إن شاء الله تعالى -.. وأن الإنسان السعودي ومستقبله الزاهر هو الهدف الذي ينشده هذا الملك الصالح.. حتى أصبح عهده عهد الرخاء والأمن والاطمئنان ورغد العيش.. عهد الإصلاح ومحاربة الفقر والبطالة والفساد.. عهد حسن النوايا والتطلع إلى المستقبل وفق خطىً ثابتة متوازنة تحافظ على الثوابت والأصالة والتقاليد العربية الراسخة.. والمعاصرة المنضبطة النافعة.. فبعد مضي هذه الأعوام المضيئة المشرقة من حكمه المديد الحافل بالنماء والبذل والعطاء، يشعر السعوديون بالفخر والاعتزاز بهذه المنجزات الضخمة من مشروعات اقتصادية تنموية.. إلى جامعات علمية رائدة.. إلى زيادة في الرواتب بنسبة تصل إلى أكثر من 20 % ساعدت على مواجهة تكاليف المعيشة المتزايدة وغلاء الأسعار.. إلى تنظيم ولاية الدولة وانتقال السلطة وإلى دعم للقضاء والقضاة وتطوير لمرافق القضاء، ورعاية للحسبة والمحتسبين.. وإنفاق على الدعاة ودور العبادة وعناية بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفتح الحوار الوطني بضوابطه.. وتشكيل لجان عليا اقتصادية وبترولية برئاسته يحفظه الله إلى تبنّي مشروعات إعانة محدودي الدخل وتأمين الإسكان المريح المناسب لكافة المحتاجين من أبناء الوطن.. ناهيك عن إنشاء وقف الحرمين الشريفين واستثمار التوسعة لهما, واستكمال احتياجاتهما وفتح الباب للمعتمرين والزوار في كل وقت وحين بضوابطه.. إلى غير ذلك من مبادرات شجاعة, وإنجازات متوالية تصب في مصلحة الوطن والشعب السعودي ورفع قيمة وكرامة المواطن وهاهو - حفظه الله - يعبّر عن ذلك بكلمات من القلب موجهاً كلامه لكافة المسؤولين في الدولة : ( أطلب منكم أنتم يا إخواني وأحملكم مسؤولية كبيرة لأنكم اخترناكم من بين شعب المملكة العربية السعودية ولازم تقدرون هذا ولازم تتحملون المسؤولية وتؤدون واجبكم نحو دينكم ووطنكم وشعبكم وأطلب منكم أن مكاتبكم لا تحطون عليها بواب ولا تسكرونها أمام الشعب لأنكم أنتم كلكم ونحن خدام لهذا الشعب ولهذا الوطن، خدام قبل كل شيء لديننا الذي لا نزيح عنه إن شاء الله، دين العزة، دين الكرامة، دين الوفاء، دين الأخلاق، هذا لا يمكن أن نزيح عنه إن شاء الله نحن وأبناؤنا وأبناء أبنائنا إن شاء الله لأنّ شعب المملكة العربية السعودية شعب مسلم أصيل، وإن شاء الله أن يوفقه لخدمة دينه ووطنه وأتمنى منكم يا إخوان الجد والاجتهاد والمسؤولية لأنّ هذه أمانة، أمانة من عنقي لأعناقكم كلكم)، كلمات تكتب بماء الذهب وأغلى.. كلها صدق وإخلاص وحذق وفطنة وحكمة وحزم وسداد، وإنصاف وإنماء وخير للوطن والمواطن وحرص على تلمُّس احتياجاته وقضاء مصالحه، وحل مشكلاته، فضلاً عن صدق المعتقد وسلامة النية وحسن الطوية.. أما بناء المدن الاقتصادية والسياحية من أجل إنعاش الاستثمار في كافة مناطق المملكة ورفع مستواها الاقتصادي والتجاري والاجتماعي فحدث ولا حرج.. مع تلمُّس احتياجات المواطنين والمقيمين وقضائها.. إنها طفرة - بحمد الله - متكاملة مرشدة.. لابد من الاستفادة منها, وعدم العبث بشيء من مقدرات الوطن وممتلكاته,.. فضلاً عن أمنه واستقراره وثوابته والمحافظة على معتقده الحق وتوحيده الخالص وشريعته الغراء.. وتمسكاً بكتاب ربه، وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسيرة سلف هذه الأمة الصالح، والتوكيد على سلفية هذه الدولة وسنيّتها.. ولم يقتصر عهد خادم الحرمين الشريفين الزاهر على الداخل فحسب.. بل تعدى ذلك إلى الخارج إلى إخوانه العرب والمسلمين.. بل وإلى دول العالم الأخرى الصديقة.. حيث امتدت أياديه البيضاء، وسجله الحافل بالبذل والعطاء لكل الدول والأقطار بل ودعا إلى فتح باب الحوار مع أصحاب الأديان والتقارب مع أرباب الحضارات.. ووجّه بافتتاح مراكز ومعاهد متخصصة لذلك كما هو الحال في مركز الدراسات وحوار الحضارات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.. فهو نصير الأمن والسلم والسلام.. بل هو إنسانيٌّ بحق.. فحقّ لنا أن نفخر ونفاخر فيه.. وأن نعلن في كل وقت ومكان ببيعته وولايته علينا منطلقين في ذلك من معتقد أهل السنّة والجماعة ومنهجهم وأصولهم في هذا الباب.. فلا نخلع يداً من طاعة بقول أو بفعل أو تصرف أو تعاطف أو إيواء أو تستر أو بأي وجه من الوجوه.. وهذا دين وعبادة.. ندين الله تعالى بذلك. ونتقرّب إليه به، وندعو إليه، ونعتقده جازمين.. فنبايع على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر وعلى أثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم ونقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، وأن ننصر ولاة أمرنا في السراء والضراء في الرخاء والشدة.. نبايع على السمع والطاعة فيما استطعنا وبالمعروف، والنصح لكل مسلم ومسلمة.. نمتثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عند مسلم وغيره: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).. حفظ الله خادم الحرمين الشريفين من كل سوء ومكروه وحفظ الله ساعده الأيمن وولي عهده الأمين وألبسهما ثوب الصحة والعافية وأعاد علينا هذه المناسبة الغالية أعواماً عديدة, وأزمنة مديدة, وهذا الوطن وولاته ومواطنوه يرفلون بثياب الصحة والعافية والفلاح والأمن والإيمان .. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.. (*) وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية - والأستاذ بالمعهد العالي للقضاء