مضت شهور ستة على وفاة الدكتور عبدالحليم عويس -يرحمه الله- ولم أعلم بوفاته إلا هذا الأسبوع حينما وصلني عدد من أعداد مجلة الأدب الإسلامي الأخيرة، رأيت على غلافه صورة أبي أحمد، وكنت أظنه لقاء صحفياً معه وإذا به خبر وفاته -يرحمه الله-. من هو عبدالحليم عويس؟ هو الذي قال: يجب أن تقودنا الفطرة السليمة المشبعة بالروح الإسلامية لدعوة الذين يتقبلون الرسالة من غير المسلمين؛ وألا نتوقف على إفهام المسلمين دينهم فحسب، وهو الذي أوغل في التاريخ الإسلامي، فكانت رسالته للماجستير بعنوان: (دولة بني حماد في الجزائر)، وكانت رسالته للدكتوراه التي نالها عام 1978م بعنوان: (ابن حزم الأندلسي مؤرخاً)، وهو الذي عمل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض على مدى خمسة عشر عاماً وكان مستشاراً لمدير الجامعة معالي د. عبدالله التركي، ومتعاوناً في تسيير أعمال رابطة الجامعات الإسلامية، وهو أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية. الدكتور عبدالحليم عويس هو ابن قرية (سندسيس) في صعيد مصر، فقد ولد فيها عام 1943م، وهي قرية تحمل خصائص الريف المصري بجدارة، فقد زرتها مع الدكتور عبدالقدوس أبي صالح والدكتور عبدالباسط بدر في عودتنا من الإسكندرية إلى القاهرة في فصل الشتاء القارس، وكان الليل قد داهمنا ونحن على الطريق الزراعي، فأصر الدكتور عبدالحليم على أن نمر بقريته ضيوفاً على والده وأسرته، ويا لها من ليلة شتائية لا نجوم لها، ولكنها كانت مميزة عن غيرها من الليالي بالرفقة المميزة التي حولت الليل الطويل إلى حديقة غناء من أخبار العلم والأدب والشعر، ولم تكن في القرية مدافئ؛ فجاء لنا الدكتور عبدالحليم -يرحمه الله- بصحن كبير -طشت - وضع فيه ماء وأتى بدافور ضخم قد أوقده ووضعه في الطشت فتدفأ بناره الملتهبة التي تجمع بين الحمرة والزرقة مع ما يتصاعد منها من دخان. سندسيس شهدت مولده، كما شهدت جنازته محمولة على الأعناق حيث دفن هناك. من عبدالحليم عويس؟.. هو المؤرخ، الإعلامي، الإداري الذي كان يتوقد حركة ونشاطاً، هو الأستاذ الذي أشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات المصرية والسعودية، وهو الذي أسهم في الدعم العلمي والتربوي لإنشاء الجامعة الإسلامية بروتردام بهولندا وظل يزورها على مدى شهر ونصف حتى استقام عودها، إنه المشرف على تحرير الملف الفقهي لجريدة الشرق الأوسط على مدى خمس سنوات، وقد صدرت ملفات هذا الباب الفقهي في ثلاثة عشر كتاباً، ثم أصدرها المؤلف في مجلدات ثلاثة بعنوان (موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر)، إنه الذي أشرف على عمل موسوعة في نحو عشرة آلاف صفحة للتاريخ الإسلامي عبر العصور، وقد تبرع سمو الأمير الدكتور سعود بن سلمان بن محمد بنشرها وهي الآن قيد المراجعة والطبع. إنه عبدالحليم عويس «ستون كتاباً في التاريخ الإسلامي والفقه والسيرة والتراجم» ولو لم يكن له إلا كتاب «صفحات من جهود المسلمين في الحضارة الهندية» لكان كافياً لتقديره واحترامه. التقيت به في المؤتمر الثامن للإعجاز العلمي في الكويت، وكان قد بدا عليه أثر المرض الذي عانى منه طويلاً، فلوح لي بعصاه قائلاً: ها أنذا يا عبدالرحمن أتوكأ على العصا، ثم أخذني جانباً وقال: أريد أن أخبرك عن قصة حب عجيبة دامت عشرات السنوات مكبوتة في القلبين العاشقين، وقد كتب الله للحبيبين اللقاء بعد أن دخلا في سراديب الشيخوخة، أتدري من بكل هذه القصة؟ قلت مبتسماً: كأنك أنت هو؟.. قال: إي والله يا عبدالرحمن لقد مات زوجها العام الماضي، وماتت زوجتي في العام نفسه فاستيقظ ذلك المارد الساكن في أعماقي، فخطبتها من ابنها الأكبر، وكاد يفقد توازنه من هول المفاجأة، ولكنني تحدثت معه بلسان المنطق والعقل والعشق، وقد بر بي وبأمه، كما بر بنا أولادنا جميعاً، وتم الزواج بين عروسين يتجاوزان الستين عاماً، ولم أستطع أن أعلق على ما سمعت منه -يرحمه الله- فقال: لقد أهديتك قصة عجيبة فصفها كما تشاء شعراً أم نثراً وحدث بها من تشاء، فقد رضي العاشقان بقضاء الله عشرات السنوات فذهب كل واحد منهما في طريقه، ولعل الله قد كافأهما على ذلك بأن جمع بينهما في الدنيا وأسأله أن يجمعنا بجميع من نحب في الآخرة. رحل عن الدنيا د. عبدالحليم عويس صاحب كتاب (ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة) وغيره من الكتب القيمة. إشارة: في كتابه (أربعون سبباً لسقوط الأندلس) ما ينفع من يقرؤه هذه الأيام.