المتوقَّع في أي سوق مالية تتعرض لتصحيح حاد كالذي حدث في سوق الأسهم السعودية أن يصبح المتداولون أكثر حذراً، وتتراجع حدة المضاربات بشكل كبير؛ فالمتعاملون في السوق يصبحون أكثر اهتماماً بحقيقة الأداء المالي للشركات المدرجة، وأكثر إدراكاً للمخاطر المترتبة على المضاربة في أسهم شركات خاسرة ومتدنية الأداء. كما أن الجهة المسؤولة عن إدارة السوق تصبح أكثر حرصاً على محاربة الممارسات غير المشروعة وإدراكاً لأهمية قيامها بدورها الرقابي بكل كفاءة؛ فأي تراخٍ في ذلك ستكون له عواقب وخيمة على السوق المالية وعلى المتعاملين فيه. ما يحدث في سوق الأسهم السعودية حالياً معاكس لهذا التوقُّع تماماً، ويُثبت أن سوقنا المالية أبعد ما يمكن من أن تكون سوقاً استثمارية جديرة بأن تحظى بثقة المستثمرين، فمنهم من ضرب عرض الحائط بكل معايير المنطق والتحليل المالي، واتجه إلى الاستثمار في أسهم الشركات الخاسرة وشركات المضاربة. قد يكون حقق أرباحاً كبيرة خلال الشهرين الماضيين، بينما من اعتقد أن حدة تراجع سوق الأسهم السعودية ستحوله إلى سوق استثمارية بدلاً من سوق مضاربة، ووجه استثماراته بالتالي إلى شركات العوائد، حقَّق مكاسب محدودة. فحسب إغلاق السوق ليوم الأربعاء الماضي فإن سهم شركة سابك حقَّق منذ بداية هذا العام ارتفاعاً لم تتجاوز نسبته 12 %، وأسمنت اليمامة لم تتعد نسبة ارتفاع سهمها 5 %، وهما شركتان تتصفان بالأداء المالي الجيد، وتتمتعان بنظرة مستقبلية إيجابية. في المقابل نجد أن شركات تعاني مالياً، بل إن حتى مجرد بقائها في السوق أمر يكتنفه الكثير من الشك، قد حققت أسهمها ارتفاعاً كبيراً جداً، وسيطرت على معظم التداولات في السوق. وعلى سبيل المثال سهم شركة زين مرتفع منذ بداية العام حتى إغلاق يوم الأربعاء بنسبة 101 %، وسهم دار الأركان حقق ارتفاعاً نسبته 85 %، والعديد من شركات قطاع التأمين، وهو قطاع مضاربة بامتياز، حققت أسهمها منذ بداية العام ارتفاعات تجاوزت نسبها 100 %. إلا أن ما ينتظر المستثمرين في هذه الشركات هو سيناريو مماثل لسيناريو سهم شركة الاتصالات المتكاملة، التي فضحت نتائجها المالية التي أعلنت يوم السبت حجم المخالفات المالية في عملية اكتتابها وإدارتها؛ فسهم هذه الشركة الذي لم تتجاوز قيمته بداية العام 15.95 ريال ارتفع في نحو ثمانية أسابيع فقط ليصل إلى 53.25 ريال، أي بنسبة ارتفاع بلغت 234 %؛ ليبدأ بعدها مسلسل الانهيار بحيث وصل مع إغلاق يوم السبت وقبل إيقاف تداول سهم هذه الشركة إلى 17.2 ريال للسهم، أي بنسبة تراجع بلغت 68 %، والصورة القاتمة التي ترسمها النتائج المالية للشركة تنذر بما هو أكبر من مجرد وقف التداول بالنسبة لملاك هذا السهم. هذا الوضع العجيب والغريب الذي تمر به سوقنا المالية حالياً يجعل عملية إصلاح السوق ورفع مستوى شفافيته أمراً ملحًّا لا يحتمل التأجيل مطلقاً، ومسؤولية هيئة السوق المالية تحتم عليها عدم التغاضي عن الممارسات غير المشروعة التي تفقد السوق مصداقيته، وتعرض المتداولين لمخاطر هائلة؛ فعمليات المضاربة غير المشروعة والتحالفات بين المتلاعبين التي تستهدف الرفع القسري لأسعار الأسهم يجعلها تتراجع بحدة ملحقة بالغ الضرر بمعظم المتعاملين في السوق. وعلى الهيئة أن تدرك أنه لن يكون مقبولاً تكرار سيناريو الارتفاع الحاد ثم الانهيار من جديد، لا بالنسبة للجهات العليا في الدولة ولا بالنسبة للمتداولين في السوق، وهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تُفعل دورها الرقابي بقوة وحزم لا يستثنيان أحداً، ومجريات السوق حالياً تؤكد أننا سائرون نحو سيناريو أو سيناريوهات انهيارات متكررة تنتقل من شركة إلى أخرى إن لم تتدارك هيئة السوق الموقف سريعاً، وتحسّن من أدائها لدورها الرقابي.