الخطورة الإستراتيجية للنفط بأنه غالبا ما يكون مُخدرا وليس مُسكنا. فالمخدر يُذهب الألم عن صاحبه كما يُذهله عن الحقيقة التي ستظهر له بعد ذهاب المخدر فلا يفكر فيها ولا يعمل عليها. والأخطر من ذلك إذا ما أُدمن عليه، فدمر المخدر الأخلاق والعقول. وأما المُسكن فهو يخفف الألم لفترة تسمح لصاحبه بأن يعالج أسبابه. والنفط نعمة إذا ما استُخدم كمسكن، وهو نقمة إذا ما استخدم كمُخدر. والأمم لا تقاس بالسنوات، بل بالأجيال. وما أشد ألما من فقر بعد غنى، وذل بعد عز، وذاك على نفس شخص واحد، فكيف يكون الألم إذا كان تغيُر الحال على أمة من الأمم وفي عمر لا يتجاوز قرنا من الزمان. ما كان الغاز إلا نقمة على هولندا في القرن الماضي. حيث تسبب بارتفاع عملتها فركن أهلها إلى الاستيراد. فسيطرت صناعة النفط على الاقتصاد الهولندي. فتأخرت الإنتاجية وتعطلت المزارع والمصانع وما لحق ذلك من الفساد الاجتماعي، حتى أدركت هولندا مرضها فعالجته. فأصبح المرض الهولندي حكاية وعبرة، يُستشهد بها في شتى مجالات العلوم الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. والنرويج جارة لهولندا، فتعلمت الدرس. فهي اليوم لا تسمح لأموال نفطها بأن تدخل إلى اقتصادها الإنتاجي خوفا عليه وعلى مجتمعها من المرض الهولندي، فهي تستثمره في صناديق سيادية خارج البلاد. تعزله عن الاقتصاد كما يُعزل البعير الأجرب عن باقي القطيع. فهي ثروة رافعة ثم خافضة، جاءت على غير ميعاد، فلتُحفظ ليوم أسود قد يأتي بغير ميعاد. ليس النفط غريبا عن الإنسانية، فقد عرفته قديما وأدركت نعمته ونقمته على الشعوب. فأينما أصبحت الموارد الطبيعية المستنفذة عموما (وأهمها النفط) هي المسيطرة على الاقتصاد، أصبح هناك شللا في الإنتاج وتعطلا في الإبداعية وإبطاء في النمو الاقتصادي وارتفاعا لمعدلات الفقر (ولو بعد حين قريب)، وانتشر الحكم الاستبدادي والفساد والصراعات العنيفة. ومن أكبر الآثار الضارة على أموال النفط أنها تعمل على إضعاف مؤسسات المجتمع المدني، بجعله معتمدا على التخطيط المركزي (الإداري والاقتصادي). ولو سبر الناظر المتأمل دول العالم المتخلف جميعها، لما وجد جامعا يجمع بينها كلها إلا التخطيط المركزي، بشقيه الإداري والاقتصادي. «لعنة النفط» هكذا يُذكر النفط عند مفكري الغرب في مباحثاتهم الإستراتيجية حول الاقتصاد والمجتمعات. ونحن في السعودية، قد أدركنا خير كثير من النفط، ولكننا لم نسلم من سكرته. ولا أتحدث اليوم عن وضعنا الاقتصادي القائم غالبا على استنزاف النفط لا استغلال النفط. فهذا موضوع معروف مُنتبه له من مفكري الدولة، وإن كانت الجدية والحلول لا ترقى إلى عظم وخطورة الحال. بل أنا اليوم أتحدث عن أثر النفط في ضرره المباشر على الدعوة السلفية وعلى المؤسسات المدنية وعلى الأنظمة القانونية. فأموال النفط وقوته السياسية قدمت غطاء وهميا أقنعت رواد السلفية بصلاحها على حالها المجمدة. واعتمد المجتمع على الحكومة في تخطيطها المركزي، فتعطل الحافز لتكوين المؤسسات المدنية. وأموال النفط ضمنت البنوك، فانتشرت الفوضى القانونية المالية. وإن كان النفط اليوم قادرا على تقديم الغطاء الوهمي بصلاح المجتمع على حاله هذه مع جمود الدعوة السلفية وانعدام المؤسسات المدنية وانتشار الفوضى القانونية، فإن النفط في القريب العاجل (مع نمو السكان وتزايد الاستهلاك المحلي للنفط) سيعجز عن المواصلة في تقديم الغطاء الموهم لصلاح الأوضاع الدينية والاجتماعية والقانونية. ومن المسكوت عنه في زمن النفط أن اقتصادنا الحقيقي بعيدا عن البترول لا يسمح بوجود طبقة وسطى. والطبقة الوسطى الموجودة التي بدأت تتأكل اليوم، هي نتاج صناعة التخطيط المركزي القائم على أموال النفط. وبزيادة عدد السكان وزيادة الاستهلاك المحلي للنفط وقيام الصناعات عليه، سيتعجل بعجز النفط عن مواصلته في إيجاد هذه الطبقة الوسطى. وغياب الطبقة الوسطى هو غياب الأساسيات لأي استقرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو أخلاقي.