من أحسن الكتب التي قرأتها كتاب اسمه «أسود مثلي» للصحفي الأمريكي جون هاوارد غريفن، الذي قرر أن يخترق عالم الزنوج الأمريكان في العقد السادس من القرن الماضي؛ ذلك أن العنصرية ضد السود كانت جزءاً بارزاً من الثقافة الأمريكية، خاصة في الولايات الجنوبية، التي اشتهرت بالتفرقة العنصرية المقنَّنة؛ ففي المطاعم والمكتبات.. إلخ كانت هناك لوحات «للبيض فقط»، وإذا كان حظهم حسناً فقد كان للسود مكان آخر معزول، فإذا كان المطعم يسمح بدخول كلا العرقين فإن دورات المياه تُقسَّم، ويكون أحدهما هو الحمام الرسمي - أكرمكم الله - أما الآخر فعليه لوحة «خاص بالزنوج»، إضافة إلى الكثير من أوجه العنصرية غير ذلك، بل حتى لم يكن غريباً أن يجتمع البيض ويقتلون زنجياً بلا محاكمة! سمع هاوارد الكثير عن هذه الأمور، وقرر أن ينتحل شخصية زنجي، ويختلط معهم؛ ليعرف الحقيقة. ولأن هذا كان قبل الماكياج المحترف، الذي نعرفه اليوم، فقد اضطر هاوارد لاستخدام الأدوية؛ فقصد طبيباً اقترح عليه دواء بالفم ومرهماً، إضافة إلى غريفة تسمير مليئة بالأشعة فوق البنفسجية، وكان يراجع الطبيب باستمرار للتأكد أن هذه الأشياء لا تسمم الدم، وصبر على بقية أعراضها مثل الغثيان والتثاقل، ثم جزَّ شعره الناعم فصار زنجياً خالصاً. بدأ هاوارد رحلته في ولاية لويزيانا، واختلط مع بعض السود، وأسعده أنهم قبلوه، ولم يميزوا أنه أبيض الأصل. مشى في الشارع يوماً، ولفت انتباهه قائمة طعام معروضة أمام مطعم، فوقف في الشارع يتصفحها، ثم لاحظ نظرات الاستهجان في أعين البيض حوله، وهي إشارة إلى أنه تجاوز حده؛ ذلك أن المطعم لا يسمح بدخول السود، وتأمل هاوارد هذا الوضع، فقبل أيام قلائل كان يستطيع دخول المطعم، والآن استحال ذلك، فقط بسبب لونه. أراد أن يبدأ من الصفر؛ فبحث عن وظيفة، ولم يجد إلا الرفض المستمر، رغم أنه كان حسن اللباس مهذب اللسان. مضت أيام وهو لا يجد إلا الصد، وأخبره بعض السود أن الزنجي في الولايات الجنوبية لا أمل له إلا في إحدى ثلاث: قسيس، أو مدرس، أو عامل بريد، وغيرها «يفتح الله». تعب بعد أيام عدة من البحث المستمر؛ فرأى حديقة، وجلس على أحد كراسيها يستريح، ثوانٍ وإذا برجل أنيق يقترب منه، وظن هاوارد أن مظهره أرفع من أن يكون عنصرياً، ولما وصل الرجل قال لهاوارد: «ابحث عن مكان آخر ترتاح فيه». كان الزنجي لا يستطيع حتى الراحة في الأماكن العامة، ولم يكن له إلا المشي المستمر أو أن ينزوي في وظيفة لن يجدها إلا بشق الأنفس، وإذا جلس في مكان عام ورأته دورية شرطة فلن يرى إلا المعاناة! ابتلع الإهانة، ومضى يواصل البحث عن وظيفة، وكان منذ أن تقمص هذه الشخصية الجديدة سمع من الإهانات العنصرية والشتم والسخرية الشيء الكثير، وعَلم لاحقاً أن الأسود كان يعزي نفسه بأن البيض لم يكونوا يحقدون عليه شخصياً وإنما «فقط» بسبب لون جلده، وهي قاعدة تُعلمها الأم ولدها منذ الصغر. قرر الذهاب لولاية ميسيسيبي، وهي من أكثر الولايات عنصرية، وحاول أصدقاؤه السود أن يثنوه عن ذلك، لكنه صمم، فأسدوه نصائح وودعوه. في أول أيامه هناك في مدينة هاتيزبيرغ جلس في غرفة فُنيدق، وبدأ يكتب رسالة لزوجته، فكتب: «مدينة هاتيزبيرغ، 14 نوفمبر. إلى عزيزتي...»، وتوقف. رنَّت في أذنيه تحذيرات أصحابه الزنوج لما حذروه من النساء البيض، حتى من مجرد النظر إليهن، ونظر في المرآة فرأى رجلاً أسود، ورأى هذا الزنجي وهو يكتب رسالة حب لامرأة بيضاء؛ فازدحم صدره بالكآبة وهو يتخيل عنصرياً يسأله بحدة «من تظن نفسك حتى تخاطب امرأة بيضاء بكلمة عزيزتي؟ ما أنت إلا زنجي!». شعر بحاجز اللون يكبر ويتعاظم، ولم يستطيع إكمال الرسالة. يقول إن من الأشياء التي لاحظها هو ما يسميه «نظرة البغض»، ورآها خاصة من النساء الأكبر سناً، فإذا لمحنَ أسود فإنهن يرمقنه بنظرة حادة متخمة بالحقد والازدراء، وهي نظرة أحالت حياته إلى جحيم وجلبت له الاضطراب. حصل له هذا ذات مرة ورأى امرأة منهن لم تعطه تلك النظرة، رأى وجهاً جامداً، فشعر بامتنان عظيم! كان هذا في ولاية ألاباما، وبعد 6 أسابيع من النظرات والإهانات والمشقات والتهديدات اختنقَ من هذه التجربة فلم يعد يصبر، وتوقف عن تناول الأدوية إلى أن عاد جلده كما كان. كانت تجربة فريدة، وبعد أن نشر هاوارد هذه المذكرات ثارت ضجة عظيمة، وأتته وعائلته تهديدات كثيرة حتى اضطروا إلى أن يهاجروا إلى المكسيك، ولكنه رأى أنه ثمن عادل. غني عن القول أن هاوارد وأمثاله يعطون الصحافة شرفاً واسماً طيباً، وما أحسن التضحية للمبادئ السليمة.