إهداء إلى روح «علي» الذي مات منذ أمد وكانت جنازته مهيبة: البارحة يا «علي» زارني طيفك من تخوم الغياب الطويل، كنت حينها أنيقا وبك عطر وتلبس حلة خضراء ويصبغ وجهك البياض، سألتني بهدوء، كيف هو حال بيتنا بعدي والممر والمسجد المحاذي والصحبة والصبية وجارنا العتيق؟ كيف هي الجموع إلى بيتنا هل هي نفس الجموع؟ وكيف هي أختي والعجوز؟ وهل صحيح بأن العجوز سقيمة؟ وأختي عليلة؟ وأن الناس تفرقوا مثل سحاب؟ وساد بينهم هرج ومرج؟ وما بقى في النفس ضي؟ ولا للشجر في؟ ولا حتى لماء المدينة عذوبة؟ البارحة يا «علي» أجبتك بانكسار، بأن الجمل قد تعثر، وبأن الرصيف تكسر، وانكشف الهم، وماتت الحديقة، لا الأحلام بعدك أزهرت، والحقول أصبحت عاقرة، والشجر صار باكيا في طرقات الأنين، يا «علي» البيت بعدك يتيم، بعد أن هويت كأكبر نخلاته، وأكثرها ثمرا، لم يكن الأمر مفاجئا، كنت بارا ورحيما وتعطي كغيمة ونخلة، لقد كان رحيلك أسى وكآبة غلفت سحن الكثير، لكنني استطعت أن أحدس بأن حزن الناس عليك حتى الآن كان وجدا حزينا لكنه نبيل، مرعب هو موتك يا «علي» لم تترك لنا حيزا لتطييب الخواطر أو البحث عن تعزية، الموت ضريبة الحياة التي مهما طالت فهي قصيرة، خصوصا لمن هم مثلك، النافذة بعدك يا «علي» صارت ضيقة لا تتسع لأحلامنا التي كنت تطالبنا بامتلاكها، اليتم بعدك هو اليتم، والفقدان هو فقدان، والمرارة زادت مرارة، وخسارتنا بك لم تزل فادحة وكبيرة، بيتك العتيق يا «علي» مازالت ترنوا عيونه إلى ما بقى لك من إباء عنده، فالحياة فيه لا يمكن أن تكون عميقة وجذابة بدونك، العالم بعدك ازداد قبحا وظلاما وقتامه، والناس بعدك صاروا أشقيا وبهم طمع وحنق وبعض تمرد جنون، «علي» أيها الراحل المدهش خسارتي فيك لا تحصى، وطيفك ينير في العتمة، عذب أنت، نهر أنت، وحيد تسكن قلبي، تحاصره من كل الجهات، بعدك أعيش وحيدا بين كل هؤلاء الذين جعلوني وحيدا، وأنت شأنك غير، وغيمك غير، ورذاذك لا يشبه كل الرذاذ، بعدك يا «علي» الأشباح خرجت تتكور، تتساوى مع الريح، لها ضجيج مرعب، وطيش وجنون متسع، ليس لهم حبور ولا حضور ولا نسيج أو قصيدة وليسوا كأرغفة خبز الصباح، هم مثل دود ونعاس، ليس عندهم سوى الكلام واللهاث، مثل كومة حديد ليس بها نحاس، لم يعد لديهم عشبا ولا شمسا ولا رابية ولا سطوع بل أصبحوا كساح أعظم من الكساح، أرواحهم شاخت، حول أفواههم لا تحوم الفراشات، ولا ينقط الندى، ولا تنتثر النجوم، وحتى نجمة الصباح صارت عندهم حبلى بالانبهار، يحومون مطربين حول الرمل والرماد، ينصهرون كالزفت في الطرقات، يتكسرون مثل الزجاج، يا «علي» البساتين بعدك نائمة، والنخل مال، والجموع تائه، والأرض صارت مستنقعات وسبخة، يا «علي» كنت تحمل المعنى وتطوف بين الناس، وتجول شوارع المدينة باندفاع خجول، تبحث عن الوجوه التائه في الظلام الكبير، كنت وردة البيت، والغيمة الهطالة، والضحكة العادلة، والباب والنافذة، والعطر والمعطف، والموسم والمرسم، والريشة والقماش، لهذا نم الآن هادئا ونظيفا فقد دفناك ضوءا، وسنبكيك طويلا، وسيبقى المراهقون والتماثيل والأعمدة المائلة بعدك محاصرين بالجمر والتراب والرمل والسواد والفيافي والكوابيس والنهايات الشقية والخرائب، وسيتسولون القصب من مكاتب السمسرة والأزقة العتيقة، بلا أفق ولا أرصفة ولا ربيع يبلغ العالية، وستصبح أسماؤهم لغة ميتة، وسندفنهم حتما في القبور القاحلة.