عندما يجتمع ثلة من المتعلمين في بلادنا لنقاش موضوعي، يبرز الخلاف في صورة جدال، وسرعان ما ينزلق للتراشق بالتهم والتجهيل وقد يحدث ما لا يحمد من قول وفعل، واليوم وقد حلّ تويتر كساحة بديلة فقد كثر فيه الجدال الذي ينتهي لعراك من التهم والإهانات، ومنذ يومين انزلقت لحوار كهذا، وبعدما بردت المعمعة تذكّرت، كتاباً سبق أن قرأته قبل 10 سنين، ومن حسن الحظ أنه لم يزل في مكتبتي، هذا الكتاب حقق صيتاً قلّ أن حققه كتاب مثله، فقد بيع منه منذ طبعته الأولى عام 1967م وحتى الآن ما يقرب من 18 مليون نسخة، والكتاب يعرض لحال المتحاورين بناءً على نظرية عالم النفس الكندي إرك بيرن والمعروفة بالتحليل التواصلي «Transactional Analysis» عنوان هذا الكتاب أنا على حق وأنت على باطل «I am OK you are not OK» ألَّفه طبيب وعالم النفس الأمريكي توماس هاريس. هذا الكتاب يعرض لحال المتحاورين حول موضوع يمثّل أهمية عالية لهم. ويعرض الكتاب لأربعة أنماط يتقمّصها المحاور. يقول توماس هاريس إن الإنسان يتمثَّل ثلاث حالات في تواصله مع غيره سمّاها الحالة الوليدية والطفولية والبالغة فعندما يكون في حالة الوليدية يلتزم بالتقاليد والقيم التي تشبّع بها من تعليم والديه وفي حالة الطفولية يتمرد على القيود الواقعية ويجازف بالخيارات والقرارات وفي حال البلوغ يمارس التحكم بمشاعره ويقيّد سلوكه بصورة يحمي نفسه ويكتسب من واقعه، وبناءً على هذه الحالات الثلاث وضع 4 سيناريوهات للتواصل والتي استخدم المختصر الإنجليزي «OK» للتعبير عنا بالسالب والموجب فجعلها. الوليدية «you are OK I am not OK» أنا على باطل وأنت على حق، وفي هذا النمط يتمثَّل المحاور شخصية الوليد أمام والدية فهو أمامهم ناقص المعرفة يهتدي بما يقولان دون نقاش فهم معيار الخطاء والصدق، ويكون هذا النمط بين الشيخ ومريديه والمعلم وطلابه، والمدير ومرؤسية. الطفولية «I am OK you are not OK « أنا على حق وأنت على باطل وفي هذا النمط يتمثّل المحاور شخصية الطفل أمام والديه فهو مدفوع بغريزة حب الاستكشاف والاستمتاع ولا يفهم أو يقر الحدود التي يضعها الوالدان فيدخل في صراع نضالي لكسر الموانع والقيود ويحتال لذلك، لذا فهذا النمط يتمثَّل لدى الحركيين الذين يسعون لمقارعة السلطة العامة أو الناقمين على وضع معين أو الساعين لتغيير المجتمع لحال تروقهم بصورة قسرية. البلوغ الإيجابي «I am OK you are OK» أنت على حق وأنا على حق وفي هذا النمط يتمثَّل المحاور حالة عاقلة مدركة للمصالح والمثالب، لذا يكون الحوار بنَّاءً وهادفاً ويحصل منه نتيجة مثمرة وهذا النوع من التبادل سائد في المتحاورين الدبلوماسيين والتنفيذيين في الشركات وذوي المصالح المشتركة. البلوغ السلبي «I am not OK and you are not OK « أنت على باطل وأنا على باطل وفي هذا النمط لا يثق المحاور بما لديه من حجة ولا يقبل حجة الآخر فالسبيل لمثل هذا الحوار هو الانقطاع وهذا النوع من التواصل قليل جداً ولكنه يوجد بين الأتباع والذين لا يستطيعون اعتماد ما يعتقدونه في حوار قد يترتب عليه التزام أو قيد. من استعراض حالات التواصل بين المتحاورين اعتبر توماس هارس أن أكثر الحالات تمثيلاً هي نمط الوليدية وأقلها البلوغ السلبي، ولكن هذا كان في زمن كتابة مؤلّفه في الستينات عندما كان الالتزام بالقيم والتقاليد يمثِّل السلوك الاجتماعي المثالي أما في عصرنا الحالي فالوضع مختلف، هذا في الغرب وخصوصاً أمريكا، أما المشرق ففي نظري أن النمط السائد هو النمط الطفولي فكل يريد تغيير الآخر ولو بالقسر، لذا تنتهي حواراتنا لجدال وعراك فلعل من يقرأ هذا يتمعن في سلوكه الحواري ويحاول أن يكون بالغاً إيجابياً فذلك الذي يجعل الحوارات مفيدة ومبدعة، دون الاتهام في النوايا والأغراض.