جاء في كتب اللغة: صام صوماً وصياماً: إذا أمسك هذا, أصل اللغة في الصوم، وفي الشرع: الإمساك عن الطعام والشراب، وفي المجاز صام عن الكلام، إذا أمسك عنه، وبه فسّر قول الله تعالى: إني نذرت للرحمن صوما (مريم 26) أي صمتاً، بدليل قوله تعالى: فلن أكلم اليوم أنسيا (مريم 26)، وصام عن النكاح: تركه وهو أيضاً داخل في حد الصوم الشرعي، ومنه قول سفيان بن عيينه: الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان عن الطعام والشراب والنكاح، ثم قرأ: إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب وفي المجاز: صام عن السير إذا أمسك,, وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام، أو سير، هو صائم. هذا ما ذكره الزبيدي في تاج العروس من جواهر القاموس، ثم ذكر دلالات مجازية على ما يفيد الصوم، وما اصطلح عليه العرب في بعض التسميات (ج 8 ص 372). فالصوم ينقسم إلى عدة معان بحسب ما تعنيه كل حالة، سواء كان الصائم إنساناً، حيث يكون من صومه، ما هو تعبدي، وطاعة يراد بها وجه الله سبحانه، إذا أدي على حالة ترضاها شريعة الله التي شرع لعباده، بالاتفاق معها أداء وعملاً، أو كان الصائم إنساناً كان قد غيّر في شرع الله وبدل، وأدى هذه الشعيرة على وجه مخالف لأمر الله جل وعلا، أو مبطلاً لذلك العمل، بما نهى الله عنه، وما نهى عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. أو كان الصائم حيواناً أو طيراً أو غيرهما، ممن يؤدي صياماً على طريقة معينة، ولوقت معين. فالحيوان والطير مما لا يعقل، لم يكونوا مكلفين بشرع، ولم يبلغنا مايدل على ذلك ، ولا على أن هذه الأمم ممن نعرفه أو لا نعرفه، قد بعث إليهم نبي، يبلغهم رسالات ربهم، أو أنهم مكلفون بشرع يتعبدون الله به، إلا ما وردنا خبره في القرآن الكريم في قول الله سبحانه: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء 44). فهذه الكائنات، كما ذكر الجاحظ في كتابه الحيوان، والدميري في كتابه: حياة الحيوان الكبرى، وكما جاء في الدراسات الحديثة، عن طبائع وغرائز هذه الكائنات: من حيوان وطير وحشرات وأسماك، وكائنات متعددة لا يحصيها إلا من خلقها سبحانه في البحر أو البر,, أن منها من يصوم، ومنها من له بيات شتوي فلا يخرج إلا بعد تقشّع أيام الشتاء وبرده، ومن له بيات صيفي فلا يخرج منه إلا بعد انصرام أيام الصيف، وذهاب شدة حرارته، ولفح سمومه، وفي هذا البيات يصوم في مخبئه مدة قد تطول,, ولما كانت العرب تعطي للكلمة دلالات متعددة ومنها الصوم، ومعانيها، فقد جاء في تاج العروس: وصام الفرس صوماً، قام على غير اعتلاف، نقله الجوهري، وفي المحكم والأساس: صام الفرس صوماً وصياماً، إذا لم يعتلف، وقيل الصائم من الخيل: القائم الساكن، الذي لا يطعم شيئاً، ومنه قول الشاعر، النابغة الذبياني: خيل صيام، وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما وقال الأزهري: وأما الصائم من الخيل، فهو القائم على قوائمه الأربع من غير حفاء، وقيل للقائم صائم لإمساكه عن العلف مع قيامه، وقال الخليل: الصوم قيام بلا عمل، نقله الجوهري، وصامت الشمس استوت، وفي التهذيب اذا قامت لم تبرح مكانها، وبكرة صائمة، إذا قامت ولم تدر، وصام الشهر: صام فيه، ومنه قوله تعالى: فليصمه وجئته والشمس صائمة أو في مصامها: أي في كبد السماء، وماء صائم دائم راكد، وبنو صائم الدهر: شرذمة باليمن ينزلون نواحي الزيدية، وآخرون بمصر تاج العروس 8: 372 373 . ولا شك أن هذه الدلالة اللغوية، والأعمال التي تقوم بها تلك الكائنات، من صيام وإمساك عن الطعام لفترة معينة من الزمن، هي لحكمة أرادها الله، وفوائد تعود على تلك المخلوقات، قد تخفى أسرارها على الناس، لكنها جاءت لهذه الكائنات التي لم تكن مكلفة بشرع، لمصالح الله أعلم بها. أما الإنسان المكلف، فمما أخبر الله عنه، بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قد فرض عليها الصيام، كما فرض على الأمم قبلها، كما قال سبحانه في سورة البقرة: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة 183). هذه الفئة المؤمنة التي خاطبها الله سبحانه بصفة الإيمان، لا بصفة النسب ولا القبيلة، ولا الجنس ولا البلد، هم أهل الإيمان، الذين يقول عنهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت في كتاب الله: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فهو إما خير تدعى إليه، أو شر تنهى عنه,, وفي كلا الحالين يجب الحرص على العمل أمراً أو نهياً,. هذه الفئة المؤمنة هم الحريصون على أداء الصيام كما أمر الله، يرجون قبوله، ويتشوقون لمجيء هذا الشهر، ليفوا بما أمر الله، حرصاً في العمل، وقدوة برسول الله، واسترشاداً بما يأمرهم به، حول كيفية أداء شعيرة الصيام، على الوجه الذي يرضى الله، حتى يوفيهم الله أجورهم: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ,. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله، عز وجل، لما فيه زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة، وذكر سبحانه: انه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات (المائدة 48). ولهذا قال ها هنا: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه (تفسير ابن كثير: 641). وهذا الذي فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من كيفية الصوم، هو الأثبت والأكمل، حيث قدّر مدة الصوم، يومياً من طلوع الصبح حتى غروب الشمس، وفي الليل يباح للإنسان الأكل والشرب والوقاع، فليس متصلاً بل نهي عن الوصال لأنه يضعف البدن عن العمل والعبادة، ويحط القوى، فلا يستطيع الإنسان ان يتحرك، فجاءت الإباحه للأكل والشرب، ولسائر متع الحياة، حيث يأخذ البدن راحته، لينشط على العمل، ومتطلبات الحياة بعد ذلك,. وقد كان الصيام في ابتداء الإسلام، مدته ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ بصوم شهر رمضان كله، وقد روي ان الصيام المفروض على الأمم قبلنا ثلاثة أيام من كل شهر، فجعله الله على آخر الأمم شهراً واحداً محدداً هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن,, وقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قدم المدينة ثلاثة أيام من كل شهر، وصام عاشوراء، فأنزل الله نسخاً لتلك الحالة آيات الأمر بصوم شهر رمضان، فريضة على هذه الأمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد روي أن الصيام كان أولاً، كما كان عليه الأمم قبلنا، ثلاثة أيام من كل شهر، عن معاذ وابن مسعود، وابن عباس وقتادة وعطاء، والضحاك بن مزاحم، وزاد لم يزل هذا مشروعاً، من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصوم رمضان. ولكن الحسن البصري يجزم رحمه الله، بأنه قد كتب الصيام، على كل أمة قد خلت، كما كتب علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات: عداً معلوماً، وروى عن السدي نحوه، كما جاء في تفسير ابن أبي حاتم. أما عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقد روى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: صيام رمضان، قد كتبه الله على الأمم قبلكم أخرجه ابن حاتم برقم 1625. وقد روى عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم : يعني بذلك: أهل الكتاب وروي مثله عن الشعبي والسدي مثله,, وقد منّ الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بحسن الاتباع، والحرص على التطبيق، والبعد عن التحريف والتبديل في شرع الله، كما عمل أهل الكتاب، الذين بدّلوا في شرع الله الذي بلّغوه بواسطة أنبيائهم، وغيّروا كلام الله بما تصف الألسنة وتهوى النفوس,. وكانت عبادة الصوم من أفضل القربات عند الله سبحانه، فأعظم بذلك جل وعلا الأجر للصائم، حيث خصّ سبحانه الصيام بأنه له، إضافة تشريف وتكريم، قال ابن رجب في هذا المعنى: ومن أحسن ما ذكر في ذلك وجهان: أحدهما ان الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية، التي جُبلت على الميل إليها، لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه، من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصوم، أما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات، إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته ، حتى يتناول منه ما يسكّن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة، وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع، وهو ما كان ابن الزبير يفعله في صلاته، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فقد هذه الشهوات، وتشوق نفسه إليها، خصوصاً في نهار الصيف لشدة حره وطوله ولهذا روي أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر، دون أصحابه كما ورد بذلك أحاديث . فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه، مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل، واجتنب نهيه خوفاً من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك واختص لنفسه عمله هذا، من بين سائر الأعمال. الوجه الثاني: ان الصيام سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة، لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يتخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل لا تكتبه الحفظه، وقيل انه ليس برياء كذا قاله الإمام أحمد وغيره، وفيه حديث مرسل لطائف المعارف 149 151 . وهذا النوع الثاني من الصيام، وهو المقبول عند الله، الذي قال فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، وهو الذي يضاعف فيه الأجر، ويكثر فيه التسابق إلى الخيرات ليلاً ونهاراً. أما النوع الثالث من الصيام: فهو صوم المقصرين المتهاونين في هذه الشريعة الممتهنين للغيبة والنميمة وقول الزور، كما في قصة المرأتين اللتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست احداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس، كما جاء خبرهما في مسند الإمام أحمد رحمه الله، وفيه أنها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهما، ثم ذكرتا فدعاهما فأمرهما ان تتقيا، فقاء تاملء قدح قيحاً ودماً وصديداً ولحماً عبيطا. فهذا الصوم الذي استهان بواجباته صاحبه، ليس لله حاجة فيه، لأنه لم يعط رمضان حرمته، ولم يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في التزام ما يجب على الصائم من أمر، والامتناع عما زجر به من نهي، فصار يوم صومه ويوم فطره سواء، فلم يصن لسانه عن أكل لحوم الناس، الذي اعتبره صلى الله عليه وسلم: أشد من الامتناع عما أحل الله من طعام وشراب,, لأن للمسلم حرمة في عرضه، كما هي الحال في حرمة ماله ودمه,. وقد اعتبر بعض السلف: أن ترك الشراب والطعام أهون الصيام، وفي هذا قال جابر رضي الله عنه: اذا صحت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء,, وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي: ولهذا والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار، ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فان تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان اشارة إلى أن من امتثل أمر الله، في اجتناب الطعام، والشراب في نهار صومه، فليتمثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنه محرم بكل حال، لا يباح في وقت من الأوقات,. وهذا النوع من الصيام، حذر منه صلى الله عليه وسلم، وبين انه أتعب نفسه وأضاع أجره، فقد يرد عليه عمله مأزوراً غير مأجور، يقول عليه الصلاة والسلام: رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب وسر هذا ان التقرب إلى الله سبحانه كما قال ابن رجب بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب إلى الله سبحانه بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض، ويتقرب بالنوافل، وان كان صومه مجزياً عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته، لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهى عنه لخصوصه، دون ارتكاب ما نهى عنه لغير معنى يختص به، هذا هو أصل قول جمهور العلماء لطائف المعارف ص 152 . ولعل مثل ذلك والله أعلم من كانت نيته غير حسنة، أو اعتبر صيامه أمراً غير ذي بال، فكان يقع في المحرمات ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات ، وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه متفق عليه. وحتى يحصّل الإنسان الأجر، فيجب أن يكون الصيام بنية صادقة، ومقصودا به ثواب الله: صدقاً وعملاً، ونية، ليكون الصائم متعاملاً مع الله، في أعمال بدنه الظاهرة والباطنة، كما في الحديث القدسي: الصوم لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي . أما النوع الخامس من الصوم، فهو صوم أهل الكتاب، الذين نسخ الله شريعتهم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ورغم انهم لم يرعوا تلك الشريعة، فقد كذبوا على الله، وعدلوا وبدلوا في كتبهم، بما تهوى الأنفس، وما تصف الألسن، فأتوا بشيء لم يكن من أمر الله، وغيروا في الصيام، بأمور كثيرة، بل اختلفوا في التغيير والتبديل فكان عملهم مردوداً عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومن تعبد الله بغير ما شرعه سبحانه فعمله مردود عليه، ثم لو صح ان في بعض صيامهم جزءاً لم يعدل فإن أساس القبول اخلاص الوحدانية لله، وهؤلاء قال الله عنهم انهم قالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن آدم، واتخذوهما الهين يعبدان مع الله وهو سبحانه يقول: إن الله لا يغفر ان يشرك به ، لأنه يترك المشرك وعمله. ولعله يتاح لنا مقارنة بين صوم أهل الإسلام الصحيح، وصوم أهل الكتاب المعدل والمبدل، ان شاء الله ليعرف المسلم نعمة الله عليه فيؤديها على حقيقتها عبادة وعملاً ونية صادقة. ومن هنا ندرك أن ما مر بنا من أنواع الصيام خمسة، ليس منها الصحيح المقبول عند الله بجزائه وثوابه الشامل إلا واحد وهو ما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم ثم التابعون له بإحسان إلى يوم القيامة, تقبل من الجميع صيامهم وقيامهم. الحلم في القيادة: الإسلام دين يدعو لمكارم الأخلاق، والحلم والاناة من مكارم الأخلاق التي يحرص عليها اجدادنا العرب، وجاء الإسلام ليرسخها، فقد روي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأحنف بن قيس: فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والاناة,, والقيادة الإسلامية، منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صارت تهتم بهذا الجانب، ولن يجد القارئ صفحة من صفحات تاريخنا الإسلامي إلا وفيها عظة وعبرة، وقصص يستمد منها المتتبع الفائدة والقدوة الحسنة. ومن تلك الحكايات ما روي عن معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول، فقد جعل سعيد بن العاص والياً على المدينةالمنورة، كما ذكر الطبري في تاريخه، وفي يوم من الأيام كتب إليه: اذا جاءك كتابي هذا، فأسرع إلى دار مروان بن الحكم، فأخرجه منها واهدمها، وأدخل ماله في بيت المال. فسكت سعيد عن الأمر، ولم ينفذه، وقال: لعلها غضبة من أمير المؤمنين، يوشك أن يتراجع فيها، وبعد فترة تذكر معاوية الأمر، وندم فسأل سعيداً: هل فعل شيئاً مما أمره به، فلما جاء الجواب بالنفي، سري عنه، واستحسنه من سعيد، وحمد له هذه الأناة. وتدور الأيام وتتبدل الأحوال، فيعزل معاوية سعيداً عن ولاية المدينةالمنورة، ويجعل مكانه مروان بن الحكم، في ولاية المدينة، ومن الصدف العجيبة، ان معاوية غضب على سعيد، كما غضب من مروان في السابق، فكتب إلى مروان، اذا جاءك كتابي، فاذهب إلى دار سعيد وأخرجه منها، واهدمها وأدخل ماله بيت المال. لكن مروان لم يعمل كما عمل سعيد بن العاص، بالسكوت عن الأمر، بل ذهب إليه وأخبره بما وصله من أمير المؤمنين، فقال سعيد: وماذا تنوي ان تعمل؟ قال: أنفذ أمره، قال سعيد: لا تفعل,, ثم أخبره بما كتب إليه أمير المؤمنين معاوية من قبل بشأنه، وماذا عمل، فخجل مروان من نفسه,, فتراجع عن العمل، جزاء لإحسان سعيد إليه، وسكت عن الأمر. وبعد فترة كتب أمير المؤمنين معاوية إلى مروان بن الحكم، الوالي بالمدينة، يسأله عما فعل بسعيد؟ فأخبره بانه لم يفعل شيئاً، ولعل هذا غضبة من أمير المؤمنين، لا يلبث ان يرضى عن سعيد لمكانته، فأعجب معاوية بهذا الجواب، واستحسن هذا العمل من مروان، وشكر للاثنين حلمهما وأناتهما,, ولعل هذا امتحان من معاوية لكل منهما، لانه هو نفسه يعتبر من أصحاب الحلم المشهورين ، وله مواقف كثيرة رصدت في سجل سيرته التاريخية منها قوله: لو كان بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت اذا جروها ارخيتها، واذا ارخوها سحبتها.