ذات يوم في أحد محادثاتي مع أحد من أعرفهم ذكر لي شيئاً من الماضي أثار تعجبي. عندما كان يدرس كان لدى مدير مدرسته وسيلة غير مألوفة لتأديب من يتأخرون في الحضور صباحاً: الرياضة. بدلاً من الوقوف الطويل أو الزجر (كما في المدارس التي مريت عليها)، فإن هذا المدير كان يستقبل الطلاب المتأخرين عند الباب ويأمرهم أن يجروا بين أسوار المدرسة وبين مبناها. أفطرت، ما أفطرت، تعبان، نشيط، لا يهم، اجر واجرِ حتى تتعب، فإذا تعبت فعليك أن تجري أكثر، حتى إذا نفدت طاقتك تماماً ولم يعد فيك أدنى قدرة أمَرَك أن تركض عدة أشواط إضافية، وإلا...! كانت شاقة، حتى كان الكثير من الطلاب يتوسلون للمدير أن يضربهم ضرباً مبرحاً ولا يجعلهم يركضون! على غرابتها فقد كانت سياسة ناجحة، أنجح من الضرب والإهانة بكثير، وجمعت بين التأديب وبين الفائدة، فالحركة والرياضة في غاية الفائدة كما نعلم جميعاً. شخصياً لن أمانع لو انتشرت مثل هذه الأفكار، لكن أكثر الناس يخافون التغيير ويحبون التمسك بالأساليب التقليدية حتى لو كانت محدودة الفائدة، غير أنه في أحيان كثيرة الطرق الغريبة والجديدة تكون أنجح وأبسط من غيرها، وفي هذا المقام فلا مثال نضربه أفضل من «أنتاناس موكاس». من هو هذا الرجل؟ إنه سياسي. رشح أنتاناس نفسه لعمادة مدينة بوغوتا عاصمة كولومبيا في أمريكا الجنوبية عام 1993م ونجح. مما دفع الناس لاختياره هو أنه كان معروفاً بغرابة أطواره، ويبدو أن الناخبين قد سئموا السياسيين المعتادين وأرادوا تجربة شيئاً جديداً، وهذا ما حصلوا عليه، فهذا الرجل من أغرب السياسيين المعاصرين على الإطلاق! مثلاً، ماذا فعل أنتاناس ليحث الناس على عدم إلقاء المهملات في الشارع؟ ارتدى لباس بطل خارق مثل لباس سوبرمان ونزل للشارع وأخذ يجمع القمامة! لم يترك غرابته لما فاز بالعمادة بل احتضنها، وخذ مثالاً ما فعله ليحث الناس على ترشيد استهلاك الماء، فبدلاً من المنشورات والإعلانات الورقية والتلفازية صنع شيئاً جديداً، دعا طاقم تصوير لمنزله وارتدى لباس سباحة وأخذ يستحم على الهواء مباشرة أمام العالم! الذي فعله هو أنه فرك جسده بالصابون وقليل من الماء ثم أغلق الصنبور واستمر في الفرك، وبيّن للناس أنه لا داعي أن يكون الماء منهمراً بلا حاجة، فيمكن للشخص أن يدعك جسده والماء مغلق. نجحت الحملة وقل تبذير الماء بشكلٍ ملحوظ. أيضاً من سياساته اللافتة للانتباه «ليلة المرأة»، وهي حملة بدأها ليشجع النساء على الخروج من المنزل والتمتع بأجواء المدينة ليلاً من فترة لأخرى، وحث أزواجهن أن يعتنوا بالأطفال تلك الليلة، ونجحت نجاحاً كبيراً، إذ بلغ عدد النساء 700 ألف ممن تركن منازلهن وتفسحن في الأسواق والمنتزهات. لكن أشهر أفعاله هي حملة السلامة المرورية. قبل أن يصبح أنتاناس عمدة بوغوتا كان المئات يموتون سنوياً بسبب الحوادث، تحديداً المشاة الذين تضربهم السيارات، فعزم على تقليل هذا العدد، فأمر العمال بطلاء 1300 نجمة (وهو عدد القتلى سنوياً)، وذلك على كل مكان قُتِل فيه أحد المشاة وهو يعبر الشارع. لم يكتف بهذا بل اتخذ خطوة إضافية، وكان رأيه أن الناس يستجيبون للخوف من السخرية أكثر مما يستجيبون للحرص على حياتهم، فعيّن فريقاً ضخماً من الناس لهم مهمة واحدة: أن يلبسوا لباس المهرجين وينتشروا في الشوارع ويبحثون عن الناس الذين يقطعون الشوارع بطرق خطرة وغير قانونية، فإذا رأوا أحدهم مشى المهرج وراءه وهو يحاكي طريقة مشيه بشكلٍ ساخر! هذه كأنها مشاهد من فيلم كوميدي ولكنها حقيقية. نجحت هذه الحملة العجيبة نجاحاً مميزاً، فقلّت نسبة القتلى من المشاة إلى 600 شخص أي انخفاض بنسبة أكثر من 50%، كلهم لم يهتموا بسلامتهم سابقاً ولكن صاروا أكثر حذراً لئلا يسخر منهم المهرجون ويُضحكوا الناس عليهم. قد تكون هذه الغرائب هي ما نحتاجه لتقليل العدد الهائل من الحوادث في بلدنا! للأسف لم يحالفه الحظ لما رشح نفسه لرئاسة دولة كولومبيا عام 2010م، فأتى أنتاناس في المركز الثاني بنسبة منخفضة، ولا شك أنه لو فاز لكان رئيساً رائعاً!