في كابينة القيادة وخلف مقود القطار الذي يشبه أفعوانا لا نهاية له، تضغط صيتة السهلي (27 عاما)، بثقة مفرطة أزرار التوقف. تلتفت إلى الوراء وتعطي إشارة بيدها إلى المضيفة إيذانا بفتح الأبواب للطالبات. لوهلة، بدا المشهد حلما، غير أن صيتة الحاصلة على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي، أعادتني إلى الواقع حين التفتت إلي وهي تقول: «ما رأيك؟. من يفكر في قيادة السيارة بعد الآن؟». قبل عدة أشهر تقدمت السهلي لتكون ضمن 36 فتاة سعودية انخرطن في دورات تدريبية في أوروبا ليحصلن بعدها على رخص قيادة معتمدة من المؤسسة العامة للسكة: «لقد تعلمت أشياء جديدة يا هبة. مجال العمل هذا مختلف وأضاف لي الكثير، وقد كان فرصة لنا لنثبت أن السعوديات قادرات على إثبات جدارتهن متى ما أتيحت الفرصة لهن». تشارك صيتة 36 فتاة تتراوح أعمارهن بين 23 و 30 عاما قيادة القطار الذي يشق طريقه في المدينة الجامعية (جامعة نورة) شمال الرياض. هذا القطار الذي يتسع لأكثر من 2464 طالبة تبلغ طاقته الاستيعابية القصوى للعربة الواحدة 129 راكبة. وقد تخرجت الفتيات من دورة تدريبية استغرقت شهرين بين الرياض والدنمرك، أهلتهن ليحملن مسمى «كابتن قطار» ويتولين قيادة وتشغيل 22 عربة إيطالية الصنع لنقل الطالبات ومنسوبات الجامعة في الحرم الجامعي الذي تبلغ مساحته 8 ملايين متر مربع. «لن تعرفي مقدار المتعة التي أحظى بها وأنا أقود هذا القطار»، تقول صيتة وهي تستعد لقيادة القطار إلى المحطة التالية بعد أن اكتمل صعود الطالبات إلى مقصورة الركاب. تعطي إشارة أخرى إلى المضيفة بإغلاق الأبواب وتقول لي مازحة: «لا تغتري بكثرة هذه الأزرار التي تملأ الكابينة. قيادة القطار سهلة للغاية. لقد أهلتني الدورة والتدريب الجيد للقيادة باحترافية، وجعلتني وزميلاتي أول نساء سعوديات يقدن ميترو في العالم». طبيبة.. وكابتن في «الديبو»، وهي المنطقة التي ينطلق منها القطار في تماما الساعة السادسة صباحا بعد التأكد من سلامة عرباته قبل أن يعود إليها في السادسة مساء للكشف وإتمام عمليات الصيانة، التقيت فريال كردي مسؤولة تدريب الفتيات، التي فجرت مفاجأة حين أخبرتني أن طبيبة ومعلمة كانتا بين الفتيات ال 36 اللاتي حصلن على رخص قيادة القطار: «تم إرسالهن إلى كوبنهاجن للحصول على شهادات معتمدة ولإتمام التدريب العملي على قيادة الميترو هناك. لقد أشرفت شركة imst الدنمركية على التدريب بالكامل». وتقول كردي إن الفتيات بدأن قيادة القطار والتنقل به بين المحطات منذ سبعة أشهر: «سينتقلن في ما بعد للتحكم به وقيادته عن بعد حين نطلق النظام الأوتوماتيكي في منتصف هذا العام. الخطة هي إحلالهن مكان 20 مهندسا مساندا يشرفون على حركة القطار في وحدة التحكم الرئيسية». تضيف: «هؤلاء الفتيات سيمثلن القاعدة الأساسية. فمستقبلا سيشاركن في تدريب الفتيات المستجدات. ولا تنسي أن التوجه الجديد هو إنشاء شبكات نقل عامة في كل المناطق». وتقول مسؤولة التدريب: إن الشركة لم تقتصر على تدريب وتخريج القائدات فقط: «بل دربت أيضا 59 مضيفة ينظمن الدخول والخروج في المحطات وداخل عربات القطار. وفي كل محطة تتواجد مضيفتان تنظمان ركوب ونزول الطالبات من القطار». بالنسبة إلى أوقات الدوام تبين كردي أن الفتيات يعملن على فترتين: «الفترة الأولى من الخامسة حتى 11 صباحا أما الفترة الثانية فهي من 12 حتى 6 مساء لنقل الطالبات ومنسوبات الجامعة بين كليات الجامعة ال 15 . هناك أيضا حركة التنقل ما بين سكن الطالبات, وأعضاء هيئة التدريس الذي يضم أكثر من 1400 وحدة سكنية والمستشفى الجامعي الذي يتسع ل 700 سرير إلى جانب مركز الأبحاث, والنادي الرياضي والأستاد الذي يتسع لنحو 7000 متفرجة إضافة إلى المكتبة والمدارس التابعة وأخيرا الإدارة المركزية». فتيات السلامة صممت المحطات كمداخل رئيسية للكليات، وخُصص الدور الثالث للتنقل بالقطار. هذه المحطات تشرف عليها 250 فتاة أمن وسلامة. وبالطبع لا يمكن أن تخطئ العين اللوحات الإرشادية التي توضح خط سير القطار ومحطته المقبلة. أما اللوحة الإلكترونية الضخمة فتعلن وقت الوصول والمغادرة. في رحلتنا الأخيرة على متن القطار، كانت المضيفة مي التويجري الحاصلة على الثانوية العامة تقف بزيها الرسمي مشرفة على دخول الطالبات إلى القطار وتنظيمهم. أغلقت الأبواب بعد أن تأكدت من انتقالنا إلى العربة المخصصة وأشارت إلى الكابتن بالانطلاق. وفي عربة القطار الذي يعمل بالطاقة الكهربائية بقوة 700 فولت, وبطاقة دائمة تبلغ40 ميقا فولت كانت تهاني تقود القطار بسرعته القصوى (60 كم في الساعة) على سكة الحديد التي تمتد مسافة 12 كم متنقلة بنا بين المحطات الرئيسية (14 محطة). وخلال الرحلة التي كانت تقودها السوبر فايزر تهاني الشهري (24 عاما)، قالت لي هذه الأخيرة: إنها عملت سابقا في مجال الموارد البشرية بعد حصولها على بكالوريوس إدارة الأعمال من جامعة الملك سعود: «مع ذلك فقد سعيت للحصول على هذه الفرصة والعمل قائدة للقطار. لا يمكنك تخيل مقدار التحدي في هذه الوظيفة. أردت أن أثبت جدارتي وأعمل في مجال جديد تماما على المرأة السعودية. السعوديات اليوم يقدن ببراعة 22 عربة تتسع كل منها ل 129 شخصا بحد أقصى. بإمكاننا اليوم أن نثبت للعالم تفوق المرأة السعودية في كافة المجالات وأن احتضان الجامعة للقطار بحد ذاته خطوة رائعة».