سيقرأ مَنْ يأتي بعدنا نصوصاً كثيرة، هي إرثنا الذي سيسجِّل حراك مرحلتنا، ويستلقي على ظهره ضحكاً من بعضها، ليس أولها سرقة جني ختم رجل صالح وتحويله أموالاً في حسابه، وليس آخرها شغب الجن حيث يطلقون النار، ويولون هاربين، أو مغامرتهم؛ فهم يعشقون، ويحبون، ويسكنون أجساد الحِسان، حتى قال راقٍ من الرقاة «لا تلوموا الجن؛ أنهم معذورون»! الإغراق في التعلُّق بالغيبيات والغموض والهروب إلى عوالم السِّحر وتفسير الأحلام، وانتظار ما لا يجيء من أوهام، خلقت طقساً إيحائياً مهَّد كثيراً لتصديق الخرافات والتهيؤات والتخيلات. أضف إليها التباين بين الواقع والخيال؛ ما أدى إلى ضرورة استعادة الإرث الصحراوي من شيلات وشبات جمر وسمر وقصائد عابقة بحضور الأنثى لتعويض الجدب وخلو المشهد من وجود الطرف الآخر؛ فكان التعويض باهظاً وشرهاً ومتجاوزاً بقصائد مليئة بكل ما هو فاضح ومفصل وآثم. يصطف الرجال ببشوتهم المقصبة في الصفوف والمدرجات، ينصتون بخيالاتهم الجامحة لشاعر يحدثهم عن صيدة من الحِسان، يصفها ويصف فعله الفاضح؛ فيصفق الرجال، وينتشون في مقاعدهم، ويقبض على إثرها الملايين، وتحمله القبيلة على الأعناق. ولا أحد ينكر على الفاضح أو المفضوح، ولا أحد يقول إن هذا من إشاعة الفسق. في أضابير التاريخ «تكشف الحرة عن شعرها حين توشك الهزيمة أن تحل بقبيلتها؛ فتنقلب الموازين لصالح فرسانها؛ إذ تأخذهم الحمية فينتصرون». فهل كان استدعاء التاريخ حاضراً فيما نمر فيه من جدل هذه الأيام، وهو ما نستطيع تسميته ب(معركة ذات الشعر)، مع ملاحظة أنه لم يأتِ ذكر كشف الحرة عن شعرها في كتب التاريخ بمعرض التسفيه أو الاتهام، بل هو ورقة تُستخدم لجعل المهزوم منتصراً، فاقرؤوا ما يحدث باستدعاء ما مضى.