بسبب ندرة المطر وشح الموارد كانت الحياة في بلدان الجزيرة العربية قبل نهضتها الحديثة كفاحا متواصلا وتعبا لا ينقطع في سبيل الحصول على ما يقوّم الصلب ويقيم الأود لمواصلة الكد والكدح وكان الجميع، بدوا وحضرا، يعيشون حالة مستمرة من الترقب والحذر خوفا من الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية من السيول الجارفة إلى البَرَد إلى العواصف إلى الجراد وغير ذلك من الآفات, البيئة الصحراوية القاسية في مناخها وطبيعتها والشحيحة في مواردها جعلت الحصول على البلغة أمرا عسيرا مما نمى لدى أبنائها نزعة التنافس وما يولده ذلك من جسارة وجرأة, في ظل هذه النزعة التمردية وفي ظل انعدام الثروة وفائض الإنتاج يصبح قيام دولة مركزية قادرة على فرض الأمن والاستقرار في المجتمع أمرا متعذرا, لذلك فإنه بعد خروج الخلافة من الجزيرة إلى بلاد الشام والعراق عادت الفتن إلى وسط الجزيرة والصحراء العربية مما أدى إلى تفسخ النظام السياسي وتداعي سلطة الدولة, في ظل الظروف الاقتصادية الشحيحة التي لا تسمح بقيام سلطة توحد الجميع في قوة واحدة فإن القرى والقبائل تتشظّى سياسيا وتنعزل عن بعضها البعض وينعدم التعاون فيما بينها وتسود علاقاتها الصراعات المستمرة والحروب, تحولت القرى إلى حصون مسورة ونكص البدو إلى عاداتهم الجاهلية في الغزو والكسب, كل قبيلة وكل قرية وكل إمارة لها قصة تحكيها وتاريخ حافل بالصراعات المستمرة والمناوشات التي لا تنقطع, ومثلما تقوم بين القبائل علاقات حرب وعلاقات سلم، كذلك الحال مع الحضر وأهل القرى, قد تبدو حياة البادية للحضر حياة عنف ومذابح وفوضى عارمة وأن القبائل لا تتوقف عن قتل بعضها البعض, لكن الواقع أن الدم المسفوك في الحروب التي تقوم بين القرى والمدن بعضها البعض أغزر بكثير من الدماء التي أريقت في الحروب القبلية, لا ننكر أنه قامت هنا وهناك وعلى فترات متباعدة مشيخات وإمارات صغيرة -تذكرنا بإمارات كندة والغساسنة والمناذرة في عصر ما قبل الإسلام- استطاعت أن تمد سلطتها وتفرض السلام على وسط الجزيرة وتجبر القبائل والقرى على الخضوع لها, غير أن ما تؤكده مصادر التاريخ المحلية وتصوره الأشعار التي وصلتنا من تلك الحقب هو أن فترات السلام كانت فترات قصيرة ومتباعدة, ومما يؤكد ذلك أن الرجل آنذاك، بدويا أو حضريا، كان يحمل سلاحه أينما ذهب ولا يتخلى عنه ويعده مكملا لزيه ومتمما لرجولته، مثله مثل العباءة أو العمامة, لو تفحصنا الأوضاع السياسية والاجتماعية في الجزيرة العربية قبل نهضتها الحديثة لوجدناها بشكل عام لا تشبه الأوضاع في المناطق النهرية المجاورة مثل حوض النيل وبلاد الرافدين والشام وفارس التي كانت تشكل كيانات سياسية كبيرة يتخذ الحكم فيها طابع المركزية والاستبداد, كانت أوضاع الجزيرة العربية أقرب شبها ببلاد اليونان القديمة, ولنبدأ بالجغرافيا والمناخ, لا توجد في اليونان أنهار دائمة الجريان ومناخها يميل إلى الجفاف والزراعة فيها محدودة لقلة الأراضي الخصبة التي تتوفر فيها المياه وتنحصر في السهول الضيقة التي تحيطها الجبال الجرداء, كل هذه العوامل تشكل عائقا يحول دون ازدهار الزراعة وتجعل اليونان في حاجة مستمرة إلى الخارج في تأمين جزء كبير من متطلباتها الغذائية، خصوصا القمح، مثلهم في ذلك مثل أهل الجزيرة الذين كانوا يجلبون معظم ما يحتاجونه من الحبوب من العراق والشام، أو ما يسمونها (ديرة الحِبّان) أي البلاد التي تكثر فيها الحبوب, ومن أهم أشجار بلاد اليونان شجرة الزيتون التي تشبه النخلة في وفرة الإنتاج وعدم الحاجة إلى عناية فائقة وكلاهما ثمرته سهلة النقل والحفظ، إلا أن كلا منهما بطيئة النمو تحتاج في البداية وقبل أن تبدأ الإنتاج إلى عمل شاق وصبر وجهد متواصل يتطلب سنين من الاستقرار لذلك لا تزدهر زراعتها إلا في ظل سلطة قوية تفرض الأمن، وكان قطع أشجار الزيتون والنخيل من الأساليب المتبعة في الحروب لإضعاف المدينة المحاصرة وتجويع أهلها، ومن هنا أصبح غصن الزيتون وجريد النخل يرمزان للسلام والاستقرار, وقد حالت وعورة التضاريس والطبيعة الجبلية دون الاتصال بين الجزر التي تتشكل منها بلاد اليونان التي تتناثر في البحر كما تتناثر الواحات في صحراء الجزيرة العربية, هذا نَمّى لدى الإغريق النزعة الانفصالية، أو الروح الاستقلالية, لذلك كانت البلاد مقسّمة إلى عدة وحدات سياسية صغيرة تعرف باسم المدينة الحرة أو المدينة الدولة polis، وهي دويلة ذات سيادة مستقلة تتألف من مركز حضري، أي مدينة والمناطق القريبة منها والخاضعة لها, كتب عبداللطيف أحمد علي عن دولة المدينة يقول: بدأت دول المدن اليونانية على شكل مراكز مدنية كانت تقام عادة داخل مساحة ضيقة في السهول الصغيرة الكثيرة في العالم اليوناني، وسرعان ما اتسعت رقعتها اتساعا لم يتعد الحيز الضيق الذي أتاحته لها الطبيعة, على أن ضيق المساحة الشديدة في حالة بعض السهول، أو قيامها في موقع غير ملائم، أو جدب الأرض لعدم توافر المياه، لم يتح لبعض الجماعات الرعوية أو حتى الريفية أن تبني مراكز مدنية، فظلت تعيش في قرى ومزارع متناثرة, فإذا حدث أن نشأت دولة مدينة في سهل ولم تكن متصلة بمنطقة خلفية أو ظهير يكفي لمدها بالقوى البشرية اللازمة، فإن دولة المدينة في هذه الحالة، مثل كورنثه بالقياس إلى أثينا، كانت تعجز عن أن تصبح قوة كبرى على الرغم من رخائها الاقتصادي وموقعها الجغرافي الممتاز, وتقوم دولة المدينة في بداياتها على أساس قبلي، حيث أن القبيلة كانت هي التنظيم السائد بين الإغريق أثناء هجرتهم إلى جنوب شبه جزيرة البلقان حتى استقرارهم في الجزر اليونانية, وكان سكان كل مدينة ينقسمون إلى فئات ثلاث هي: أهل الجبل من الرعاة، وأهل السهل من المزارعين، وأهل الساحل من التجار، وكانت كل فئة من هذه الفئات الثلاث بحاجة إلى الأخرى وقامت بينها علاقات تبادل وتكامل اقتصادي وسياسي وعسكري, وهذا قريب الشبه بما كان عليه الوضع في مجتمعات الجزيرة إذا أضفنا طبقة العقيلات إلى ثنائية البدو والحضر, أضف إلى ذلك أن شح الموارد في بلاد اليونان وفي بلاد العرب دفع بالسكان هنا وهناك إلى المغامرة وامتهان التجارة والنقل والعمل في مجالات الاستيراد والتصدير, مثلما كانت سفن التجار الإغريق تمخر عباب بحر إيجة وتصارع أمواجه العاتية كانت إبل العقيلات تخترق متاهات الصحراء العربية ومفازاتها, البعير، سفينة الصحراء، جعل الإبحار في الصحراء أمرا ممكنا, ومثلما قامت صراعات بين مدن الإغريق في محاولة كل منها للسيطرة على طرق التجارة في بحر إيجة كذلك قامت صراعات بين مدن الجزيرة العربية للسيطرة على طرق التجارة الصحراوية, ويذكر المسلم أن مهنا الصالح قد اكتسب ثقة الولاة في بغداد والبصرة، وتمكن أن يترأس قوافل الحجاج منافسا لآل رشيد، وكانت قوافله عام 1265ه/1849م يصل عدد الإبل فيها إلى خمسين ألفا تحمل الحجاج وحرس يصل إلى عشرين ألفا, تسيير مثل هذه القافلة الضخمة وتوفير مستلزماتها وتأمين حراستها وحمايتها من القبائل التي تمر بها مهمة جسيمة لا يستطيع القيام بها إلا شخصية فذة ذات قوة مادية وقوة معنوية, وليس مستغربا أن تكون إمرة هذه القوافل بيد أناس يمثلون زعامات سياسية في بلدانهم, ومثلما تأسست في الماضي البعيد إمارات وممالك على هذا النشاط التجاري واللوجيستيكي، مثل مملكة الأنباط ومملكة تدمر، فقد تأسست إمارات في العصور المتأخرة معتمدة في استمرارها وقوتها على نشاط العقيلات مثل إمارة الرشيد في حائل وإمارة العليان والمهنا في بريدة, ومعظم الصراعات التي تنشأ على منصب الإمارة في البلد الواحد أو بين الإمارات المختلفة غالبا ما يكون السبب فيها حدة التنافس على عائدات النقل والتجارة عبر طرق الصحراء.