ما أقسى الغربة على النفس، وما أقسى ما تشكله هذه الغربة من لواعج وهموم كسُحُب داكنة ثقيلة مغبرة، يكاد يفقد المرء من بين ركامها الرؤية المبصرة؛ فيعيش بتيه ليست معالمه واضحة، يتلمس طريقه بخطوات واهنة متعثرة، بالكاد يسير الهوين، يتطلع لإيماءة ضوء؛ لعله يهتدي إليه، وقد أسدلت الغربة وشاحها الأسود الشاحب، وجعلت المرء يزداد موقفه غموضاً، لا يدري أهي غربة في وطن، أم غربة في افتقاد أعز الناس إليه، أم غربة عن زملاء عمل، أم غربة عن ممارسة عمله الذي يعشقه ويميل إليه بكل جوانحه وجوارحه، فحيل ما بينه وبين ذاك؛ لذلك يتعايش مع غربته بنفس مسدودة، ورغبة نحو انطلاقة محدودة، كأنه الأسير بغير أَسْر، كأنه المنبوذ بغير نبذ، ضاقت به الأرض بما رحبت. يخرج لعرض الشارع؛ لكي يستنشق عبير هواء منعش؛ فيلفحه عادم السيارات الخانق بصلافة. يحاذي الرصيف، يتطلع في وجوه الخلق، وكأنهم في عجلة من أمرهم، يتدافعون زرافات، يود أن يستوقفهم مدفوعاً بفضوله؛ لكي يسألهم إلى أين هم ذاهبون؟ فيحجم مخافة مغبة السؤال؛ لكي لا يوصم بالجنون. يجلس داخل مقهى مطل على شارع (التحلية) في جدة، والجو بارد، ملاصق للبحر على مقربة من النافورة العملاقة، فيرقب البشر حوله بحركاتهم وسكناتهم ونوعية ملابسهم، وكيف يسيرون وخطواتهم وتلويحات سواعدهم كأعمدة توازن في سيرهم على الأقدام، ومدى خطوات هذه الأقدام، ويتفرس في عضلات وجوههم وهم سائرون، وهم في حالة وجوم وانشراح.. ينظر صاحبنا لكل ذلك الخلق، وكأنه المكلَّف بعمل بحث في علم الاجتماع، وأثناء تأمله لحاله وما حوله، وهو يُجري مقارنة مع النفس في محاولة لطمأنتها؛ لكي تطمئن؛ لعلها تصادف شيئاً من المرح تماهياً مع البيت القائل (الدنيا ربيع والجو بديع قفل على كل المواضيع)، إلا أن النفس يستحيل عليها استدعاء الفرح والابتهاج؛ فما ترى ما حولها إلا كدماء متحركة تعبث بالحياة، تقضي أوقاتها باللهو واللعب، وكأنها هي - أي النفس - لا تعرف بعمرها المديد غير حرفة القراءة والكتابة، وقد ناءت عن أماكن اللهو واللعب، وتقوقعت داخل عالمها الضئيل والضنين؛ فظلت محرومة من مباهج الحياة. أليس هناك ما هو أشد وقعاً على النفس من قول البعض عن حرفة الكاتب (تاجر كلام)، غير مدركين ما تترتب عليه حرفة الكتابة من علم وفن، وقد أوصلت أناسها إلى أرقى المناصب الفكرية والعلمية، وإن اعترى طريق الكاتب بعض الصعاب، وسدَّت الطرق كافة في وجهه فلاد من بزوغ نهار جديد، تتفتح من خلاله مغاليق النفس؛ فلا بد للمرء ألا ييأس. كان كل ذلك يجري عبر منولوج داخلي، أفاق منه صاحبنا على صوت الجرسون وهو يناوله الفاتورة. تطلَّع إليها وابتسم بتهكم «يا مفتري؛ قطعة من الكيك وقارورة ماء صغيرة وفنجان قهوة تركية ب(خمسة وثلاثين ريالاً) ماذا جرى!؟». كال اللوم على الأمانة ومراقبيها الذين تركوا هذا الوافد يضع التسعيرة حسب مزاجه الخاص، ألسنا سعوديين وأغنياء؟ ولكن البركة بالتستر على أمثال هذا الوافد، وكأنهم أهل الدار ونحن الغرباء! صاحبنا ما زال يدور حواره في غياهب النفس، ثم يخطف نظره ذلك البرق الذي لاح بقوة في الأفق الغربي الشمالي صوب (نجد الحبيبة)، المحمَّل برائحة المطر؛ فهتف بداخله هاتف الوجد، وردد قائلاً: سلامي على نجد ومن حل في نجد وإن كان سلامي على البعد لا يجد صاحبنا هزه الشوق لمنابت الموهبة، ولذات الوشاح الأزرق، وكره التنقل من مكان لآخر، رغم الإغراء المادي الذي يفتقر للإغراء المعنوي، ناهيك عن افتقاد النفسية المنسجمة مع من حولها. وبينما صاحبنا في خضم أفكاره قرر مندفعاً ومن دون تردد الاتصال بمن يبثه همومه ولواعجه. كان الرقم على الشاشة يومض، يكرر طلب الرد، فأتى هادئاً ورزيناً كالمعتاد، يصغي أكثر مما يتكلم إلا من بعض كلمات مؤيدة لاستمرار الحديث. قال صاحبنا (للرئيس) كلاماً مختصراً، فكان الرد مهذباً ولطيفاً، يشي بالمؤازرة، ويشيع بالأمل وبحسن التصرف، وبهذه الكلمات الهادئة الجميلة، كما لو كانت الشفرة التي فتحت مغاليق النفس، وتجلت مثلما يتجلى البدر في عليائه بعد ظلام موحش. فما أوحش الغربة مع النفس، وما أجمل الإيناس مع الناس الذين تعزهم ويعزونك!! [email protected]