في مشهد دراماتيكي مثير انهارت حركة طالبان مرة واحدة بعد أكثر من شهر من الصمود أمام الضربات الأمريكية الموجعة وزحف تحالف الشمال، وكان الاعتقاد السائد يميل إلى احتمال صمود طالبان لسنوات قادمة وتصور الكثيرون أن رجال طالبان قادرون على الصمود وخاصة في الحرب البرية التي ترقبها الجميع وخاصة بعد ان ظهر التحالف الشمالي عاجزاً رغم المساندة الأمريكية الجوية على مدى 45 يوماً لكن فجأة انسحبت قوات طالبان من كابول ومزار الشريف والعديد من المدن الأخرى ومشاهد الانسحاب الدراماتيكي تثير حيرة الجميع بما فيهم أمريكا، فكيف انهارت طالبان؟ وهل يعد انسحابها هزيمة أم أنه انسحاب تكتيكي وما زالت للحرب بقية؟ وهل حققت الحملة العسكرية هدفها بهذا الانهيار أو الانسحاب لقوات طالبان؟ هذه التساؤلات وغيرها طرحناها على نخبة من الخبراء الإستراتيجيين وقادة العسكرية وأطباء النفس. يقول الفريق سعد الدين الشاذلي ان الصورة التي تبدو عليها الاوضاع في افغانستان تجعلنا نقول إن طالبان هزمت وان اسباب ذلك كثيرة منها الهجمات الجوية الضارية والاعمال المخابراتية العسكرية وسواء كان انسحاب طالبان تكتيكياً على طريقة الكر والفر التي يجيدها الأفغان واكسبهم صراعهم الطويل مع الاتحاد السوفيتي السابق خبرة عريضة فيها أو كان انسحابهم تراجعاً وتقهقراً وانهياراً امام زحف قوات التحالف الشمالي المدعمة بأحدث الأسلحة الأمريكية والخبراء الأمريكيين اضافة للدعم السياسي والعسكري والروسي وفي ظل القصف الجوي الأمريكي المكثف لمواقع الحركة على مدار شهر ونصف فان طالبان خرجت من خريطة افغانستان العسكرية والسياسية ولن يكون لها أي دور في أي حكومة يتم تشكيلها مستقبلاً، وسوف يظل لها دور عسكري من خلال حرب عصابات تشنها قوات طالبان التي ستلجأ إلى الجبال والكهوف، والحركة مازالت تملك العناصر القادرة على ذلك والقدر الأكبر من قواتها لم يصب بأذى ولاسيما ان طالبان بادرت بالانسحاب وفضلت عدم الدخول في مواجهة خاسرة مع قوات التحالف الشمالي التي تدعمها أمريكا وبذلك سوف تستمر الفوضى السياسية وعدم الاستقرار في افغانستان حتى بعد تشكيل حكومة جديدة. ويضيف الشاذلي انه وفق ما سبق لا اعتقد ان حركة طالبان انهارت ولكن يبدو انها راهنت على سرعة اندلاع الصراعات داخل تحالف الشمال وهذه الصراعات اقرب للحدوث والتحقق بعد ان تأكد ان الصراعات بدأت بالفعل حول مستقبل الحكم في افغانستان خاصة بعد استبعاد ظاهر شاه الملك العجوز من حسابات التحالف على عكس رغبة عدة دول أوربية واقليمية ومعهم أمريكا، وحركة طالبان تعي هذه الصراعات والتناقضات جيداً وسوف تلعب على وتر الخلافات وهو ما أكدته الحركة بتسليم اغلب المواقع التي تخلت عنها. ويرى المشير محمد عبدالغني الجمسي رئيس اركان حرب القوات المسلحة في حرب 1973م ان اسباب تراجع طالبان وهزيمتها كثيرة فميزان القوى غير متكافئ، ولكن كأن تمسك طالبان بعنصري الأرض وصلابة القوات في الحرب البرية لم يتضحا بعد في هذه الحرب رغم الخسائر التي منيت بها طالبان والمؤشرات تؤكد ان حركة طالبان قد بدأت تنفيذ خطة لحرب العصابات طويلة الأمد تعتمد على استدراج قوات المعارضة المدعومة بعناصر أمريكية إلى عدة مناطق ومن ثم استنزافها من خلال عمليات خاطفة على غرار ما حدث مع السوفيت أي سيطرة المعارضة على المدن نهاراً وطالبان ليلاً، وانسحاب طالبان السريع من كابول ومزار الشريف وحيرات وعدد من المدن الأخرى يأتي انطلاقاً من هذه الخطة والخطة تعتمد اساسا على تشتيت ذلك العدد من قوات المعارضة على مساحة واسعة من البلاد وخاصة ان عددهم لا يتجاوز (15) ألفاً بينما قوات طالبان يتجاوز ال 70 ألفاً وبذلك تسهل عملية الاستفراد بقوات المعارضة وبناء على هذه الخطة تكون المعارضة قد سقطت في فخ طالبان. كما تعتمد طالبان في خطتها على الايقاع بين الشعب والمعارضة حيث ان الانسحاب السريع من المدن الافغانية يوجد حاله من الفراغ الامني فضلا عن قيام مجموعة من عناصر المعارضة بعمليات قتل ونهب وسلب وصلت إلى ذروتها لمذابح داخل احدى المدارس في مزار الشريف، وغير انه من الصعب الحكم على ذلك حالياً، ولو تم ذلك سبتدأ طالبان تنفيذ خطتها انطلاقاً من الكهوف الضيقة والجبال الوعرة خاصة المحيطة بقندهار وكابول كما تنتظر انفجار الصراع بين قادة تحالف الشمال. فالقوات المناوئة لطالبان ستضطر إلى التوجه نحو الجنوب لمئات الكيلو مترات عبر الطرق الرئيسية وذلك اذا ما قررت التقدم نحو مدن الجنوب، هذه الطرق ستكون في صالح طالبان بسبب قسوة الاحوال الجوية التي توفر لطالبان مواقع دفاعية طبيعية وتزيد من قدرتها على التصدي لقوات التحالف وردها إلى الشمال ثانية كما أن امام الولاياتالمتحدة في حالة اتخاذ قراراً باستمرار الحملة العسكرية اللجوء إلى استخدام اقاليم ومدن الجنوب كقاعدة انطلاق لعملياتهم البرية على وجه التحديد إلا ان هذا الامر يعد مبالغاً فيه اذ إن كابول سقطت بعد انقضاء شهر من الحملة في ايدي قوات التحالف على الرغم من انعدام التأييد لطالبان في المناطق الشمالية بعكس المناطق الجنوبية التي تلقى بها الحركة تأييداً كبيراً فالقوات البرية سواء التابعة للحلف الأمريكي أو المناوئة لطالبان ستواجه صعوبات في اقامة خطوط امداد خلال عملياتهم البرية وسيضطرون إلى تحويل القتال للمناطق المنخفضة خاصة في فترات الليل التي تصل خلالها البرودة إلى أقصى درجاتها ولن يقتصر التأثير على القدرات القتالية لقوات المشاة فقط وإنما ستكون المهمات التي تكلف بها الطائرات العمودية والمقاتلة محفوفة بالمخاطر بسبب العواصف الثلجية والضباب. وسائل الخداع الخبير الإستراتيجي اللواء صلاح الدين سليم يرجع هزيمة طالبان إلى عدة أسباب: أولاً: استخدام الضربات النيرانية الصاروخية والجوية من جانب أمريكا على مدى 42 يوماً بصورة كثيفة فاقت ما تم استخدامه من ذخائر ضد كوسوفا وصربيا في 78 يوماً إلى جانب ان طالبان لا تملك دفاعاً جوياً وكل ما لديهم هو بضع بطاريات مضادة للطائرات كما انها لا تملك قوة جوية وبالتالي كانت الضربات النيرانية نوعاً من الرماية الحية من طرف واحد على أهداف بشرية لا تملك أية صورة من صور الدفاع عن النفس. أما السبب الثاني: في رأي اللواء صلاح سليم ان المخابرات المركزية الأمريكية استطاعت ان تلعب دوراً في اختراق صفوف طالبان مما أدى إلى استسلام بعض وحدات طالبان في مزار الشريف وفتح ثغرة أو ثغرات مؤثرة أدت إلى سقوط المدينة في ايدي قوات عبدالرشيد دوستم المعروف بانه الرجل الذي قمع المقاومة الإسلامية ضد الغزو السوفيتي لافغانستان طيلة عشر سنوات وهو ايضا على علاقة بالمخابرات الروسية. السبب الثالث: ان طالبان عانت من اغلاق الحدود الافغانية مع دول الجوار وخاصة مع باكستان ولم تتلق دعماً منذ بداية الحملة الأمريكية أما قوات المعارضة الشمالية فقد دعمها الروس بعدد 40 دبابة حديثة و 140 ناقلة جنود مدرعة و72 مدفعاً مختلف الأعيرة و 54 قطعة هاون وكان لهذه الأسلحة تأثيرها الفعال في معارك المواجهة المباشرة مع طالبان. ويضيف اللواء صلاح سليم ان من ضمن اسباب هزيمة حركة طالبان ايضا ان الامريكيين استخدموا وسائل الخداع اللاسلكي في العاصمة كابول وبثوا من خلال بعض عملائهم الافغان أوامر انسحاب لوحدات عدة من طالبان مما أدى إلى فوضى كاملة في الدفاع عن المدينة وكان هذا الخداع طابعاً مميزاً لاختراقات قوات المعارضة الشمالية ومن معها من عناصر الاستطلاع الأمريكية والبريطانية للمدن الأفغانية الرئيسية. ويعرج اللواء صلاح سليم على عامل آخر يراه خطيراً وهو ان الحملة الجوية الأمريكية أدت إلى ضياع المأوى وتشرد نحو أربعة ملايين أفغاني داخل وطنهم وهي مشكلة بالغة التعقيد في ظل بدء فصل الشتاء والجفاف الذي اصاب المحاصيل الزراعية في العام الحالي وتوقف المساعدات الانسانية منذ بدأت امريكا حملتها الجوية في 17 اكتوبر الماضي. ويضيف اللواء صلاح سليم ان بعض زعماء قبائل الباشتون كانوا قد فقدوا ثقتهم في اسلوب إدارة طالبان للازمة مع امريكا وكانوا يفضلون تسليم ابن لادن إلى امريكا أو إلى أي دولة إسلامية أخرى ويقول انه نتيجة لكل هذه العوامل فقد قصر زمن صمود طالبان وان كان الاحتمال لا يزال مرجحاً ان تلجأ إلى المناطق الجبلية في شرق وجنوب افغانستان وان تبدأ حرب عصابات طويلة ضد قوات المعارضة الشمالية ومن يدعمها من القوات الأمريكية والبريطانية. ويذهب إلى ان هناك احتمالات متوقعة ان تبدأ الانشقاقات بين عناصر المعارضة الشمالية وبوجه خاص بين العناصر الإسلامية مثل حزب الوحدة أو الحركة الإسلامية وبين عناصر الاوزبك التي يقودها عبدالرشيد دوستم وهو رجل علماني لا يلتزم بأحكام الدين، كما ان الاقلية الطاجيكية التي ينتمي إليها برهان الدين رباني لا تجد تأييداً من اغلب قطاعات الشعب الافغاني حتى ان شعبية ظاهر شاه الذي فقد عرشه عام 1973 اعلى كثيراً من شعبية رباني المعروف بعلاقاته المتصاعدة مع المخابرات الأمريكية في السنوات الأخيرة والتي تريد امريكا استخدامه لفترة انتقالية محدودة في افغانستان. ويخلص اللواء صلاح سليم إلى أن هذه الدولة المسلمة مقبلة على فترة صعبة من الاضطرابات الداخلية وبخاصة بعد تضاؤل فرصة تشكيل حكومة ائتلاف وطني قبل نهاية العام الحالي 2001م. أسباب كثيرة أما الخبير الإستراتيجي اللواء طلعت مسلم فيرى أن هناك اسباب كثيرة وراء هزيمة حركة طالبان منها ان موازين القوة كانت منذ البداية ضدها ولم تكن ابداً في صالحها كما ان طالبان اكتسبت عداوة كل جيرانها، واثبتت الحرب ان هناك خلافات كانت موجودة داخل طالبان ولم يكن يعرف عنها احد شيئا وأن التأييد الشعبي لهذه الحركة لم يكن واسعاً بدليل ان الناس اسرعوا فور هزيمتها إلى سماع الموسيقى وحلاقة ذقونهم..إلخ. ويرى ان من الاسباب الاخرى لهزيمة طالبان ايضا انها اعتمدت على صديق واحد هو باكستان وحينما تخلت عنها باكستان انكشفت قوتها. ويتفق مسلم مع ان الحرب لم تنته بعد لكنه يؤكد ان طالبان واجهت بالقطع هزيمة عسكرية واضحة. ويقول: من الواضح ان قيادة طالبان العسكرية لم يكن عندها درجة مناسبة من بعد النظر لتتخذ القرار المناسب مبكراً وان هذه القيادة حتى الآن مرتبكة حيث تتخذ قرارات انسحاب من بعض المدن ثم تتراجع عنها ثم تعود إليها وهكذا بما يؤكد غياب النظرة الاستراتيجية لديهم. وحول الفارق بين الوضع الحالي وما حدث مع الاتحاد السوفيتي يرى مسلم ان الاتحاد السوفيتي لم يهزم لكنه رأى ان خسارته أكبر من مكاسبه في افغانستان فقرر الانسحاب منها، لكن هذا لا يمنع انه يسيطر على افغانستان لسنوات طويلة ما الحال هنا فهو ضد من ستكون حرب العصابات وهل هي ضد أمريكا التي لا نعرف ان كانت ستظل موجودة بحيث تظل هي الهدف لهذه الحرب أم ستكون الحرب بين الفصائل الافغانية وهي حرب كانت قائمة بالفعل قبل احداث 11 سبتبمر. أما عن الحالة النفسية لحالة الانهيار لقوات طالبان فيقول الدكتور عادل صادق استاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس إذا كان ما حدث لطالبان انسحاباً كما يقول البعض فانه حتى هذا الانسحاب سيترك شعوراً انهزاميا بدون شك على قوات طالبان، وهذا الشعور ناتج عن العزلة المفروضة على طالبان والعداء الواسع من قبل العالم، بالاضافة إلى تفتت القوات ومقتل الكثيرين كل هذا يترك حالة نفسية سيئة تتمثل في المعاناة.