في هدأة تلك الليلة وسكونها، كان يمشي بمحاذاة نهر التايمز في العاصمة البريطانية لندن، كانت تلك الليلة شتوية مظلمة، وكانت الساعة تقارب الثالثة صباحاً، والشوارع خالية تماماً من الحركة والمارة، إلاّ منه ومن تلك الأفكار السوداوية الكئيبة التي كانت تُخيم على فكره. إنه دائم التفكير بالموت، ربما لأنّ حياته شهدت أحداثاً كثيرة فقد خلالها أقرب الأشخاص إلى قلبه، ففي الصغر غيّب الموت أمه، ثمّ عمته التي تولّت رعايته، فأخاه الأكبر، ومؤخراً اثنين من أصدقائه.. وربما لأنّ فكرة الموت بحد ذاتها مخيفة مروعة، وأفكاره هي نتاج لتأثيرها القوي.. أو ربما كثرة الإحباطات واليأس جعلاه يكره الحياة، ويشعر بأنه مجبرٌ عليها. وبغضّ النظر عن السبب، إلاّ أنّ الحقيقة الثابتة أنّ هوسه بالموت جعل منه إنساناً سوداوياً، كئيباً، سلبياً، لا يعمل ولا يُنتج. إنساناً منغلقاً، جامداً، خائفاً، وأصاب حياته بالشلل، وأصبح جُلّ ما يفعله هو ترقُّب الموت... كان يمشي في تلك الليلة وفي سكونها العميق بمحاذاة النهر، يسير ولا يعلم أين ستقوده قدماه، ولكن ما كان يعلمه أنّ فكرة الموت كانت تطحن رأسه طحناً، تلازمه رغبة جامحة في إنهاء حياته البائسة.. وفجأة وفي السكون المخيم، وبينما كان غارقاً في شروده العميق، شعر بأنه ليس وحده، وأنّ أحداً معه لكنه لا يراه.. فتوقف عن المشي، واخترقت جسده قشعريرة، ثم سمع صوتاً هامساً لكنه واضح النبرات يناديه ب (يا أنا)، وظهرت ملامح وجه صاحب الصوت.. كان يشبهه تماماً، والصوت صوته هو، لكنه ليس هو، بل (هو آخر) غيره، محبوس بداخله... بدأ يرتجف خوفاً وبرداً، واحتار فيما يرى ويشعر، ثم دار حوار بدأه (هو الآخر) بصوت هادر مخيف، قائلاً: إلى متى ستبقى سوداوياً كئيباً؟ إلى متى ستبقى خائفاً مرعوباً؟ إلى متى ستبقى مرتكزاً على الكسل، وعدم الرغبة في العمل، وفقدان معنى الحياة؟ فأجاب: وما يفيد كل هذا، والموت هو النهاية الحتمية، والمآل الطبيعي لنا جميعاً... سادت لحظة صمت وتفكر، قطعها (هو الآخر) عندما اقترب من (هو) وقال بصوت أقل حدة، وأهدأ نبرة لكنه أكثر حسماً: اسمع يا أنا... قم من سباتك العميق، حوّل فكرة الموت إلى أمر إيجابي... نعم كلنا آيلون إلى الموت لكن الحياة قصيرة فعشها واستغلها بالمفيد والجميل، اعمل واترك بصمة خير يتذكرك الناس بها عندما تحين ساعة المغادرة، الموت كلمة مخيفة أعلم ذلك، ولكن احرص على أن يكون موتك موتاً جميلاً... احرص على أن يكون موتك موتاً جميلاً... احرص على أن يكون موتك موتاً جميلاً... ورويداً رويداً خفت الصوت واختفى (هو الآخر)، وخيّم صمت مطبق، لم يُسمع فيه إلاّ أنفاس (هو) المتقطعة... وبعد عدة أسابيع... رأينا (هو) شخصية بهيجة نشيطة، منفتحة على الحياة... وكان يفكر بالموت، ولكن من منظور آخر...