ورحل عامنا الهجري ولم تعش أمتنا العربية جمال تعاقب فصوله كغيرها، حيث امتد خريفها الذي لا ربيع بعده باندلاع ثوراتها في أكثر من قطر، والإجماع على تسمية هذه الثورات ربيعاً، تفاؤلاً منها بأنها فاتحة لعهد جديد يسوده العدل والرخاء. فأيّ ربيع هذا الذي تراق فيه دماء المسلمين وتنتهك حرماتهم ويشرد أبناؤهم وتترمل نساؤهم، فمتى كان الفساد طريقاً للإصلاح ومتى كان الخراب طريقاً للعمران والبناء، فالشاب البوعزيزي لم يشعل نفسه فقط وإنما أشعل التاريخ العربي لتكتب الأمة العربية تاريخها بالرماد.. ومهما حاولت الشعوب الإعلان عن نجاح ثوراتها فهي واهمة، لأنها هي الخاسر الأول وإنْ حاولت تمجيد تلك الثورات أو المبالغة في تسميتها بأسماء جوفاء. لنقف لحظة ونتأمّل، ماذا جنت تلك الشعوب من ثورتها وانقلابها على الحاكم؟. إنّ جل ما حققته الشعوب الثائرة من تطلُّعاتها إزاحة الحاكم عن كرسيه ليس إلاّ!. فالذي لا تعرفه الشعوب أو ربما لا تريد أن تعرفه، أنّ وراء هذا المد الثائر والجيشان العاطفي أيدٍ خفية، فما أن تندلع الشرارة حتى يتلقّفها هؤلاء المنتفعون الحاقدون الذين يتربّصون بوطنهم الدوائر للاستيلاء على السلطة والمال بحجة الإصلاح، فيفتحون للشر باباً ويوقظون الفتنة النائمة، وهنا يكمن سؤال خطير أين هي الشعوب التي ثارت؟ بل أين هو الحق الذي ثارت له، فهل استبدلت تلك الشعوب حين ثارت واقعها بواقع أفضل أم أنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وهل ستقودها هذه الغوغائية للإصلاح وعمران البلاد، وهل سيحكم المنتفعون بالعدل والقسطاس وهم الذين تلطّخت أيديهم بدماء أبناء وطنهم؟ وهل تحققت أهداف الثورات على اختلاف مناطقها وثقافة مجتمعاتها؟، هل أشبع الجائع وكسي العاري ونصر المظلوم وأمن الخائف؟. لا شك أنّ الواقع المر بسواده لا ينبئ عن ذلك، لقد انتشر الفساد وسلبت الأموال وضاعت المصالح وتعطّلت الأمور فلا أمن ولا أمان حتى لقد تجاوز الثائرون حدود الله في الأشهر الحرم فماذا بعد ؟ وأي ربيع ؟. فالتاريخ خير واعظ وهو الذي يحدثنا أنه ليس جميع الثورات أتت بما تمنّته الشعوب، بل معظمها يصب في مصلحة المعارضين للنظام الحالي، فالمعارضون كلٌ يزين الأمور لصالحه وكلٌ يغني على ليلاه ولكل منهم حزبه وطائفته وبطانته التي تغني له، فالشاهد للثورات على مر التاريخ يعلم أنّ التغيير مكلف وصعب جداً والثمن تدفعه الشعوب. قال سيد البشرية صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد: كلمة حق في وجه سلطان جائر) ولم يقل حمل السلاح أو السيف وإراقة الدماء، بل إنه صلوات الله وسلامه عليه فتح باباً للخطاب وتقويم السلطان الجائر بسيف الكلمة الصادقة. أختم مقالتي هذه بالاستشهاد ببعض ما جاء في خطاب خادم الحرمين الشريفين الذي ألقاه في الحفل السنوي للوفود الإسلامية في حج هذا العام، ذلك الخطاب الذي ينم عن حكمة واستشراف صادق للأحداث، حيث قال حفظه الله (إنّ ما تمر به أمتنا الإسلامية، من تحديات متسارعة، يستدعي منا جميعاً أن نعي مخاطر المستقبل، وأن ندرك بأنّ عوامل الخلاف والفرقة، والتصدع في البيت الإسلامي الكبير، لن تحمل في طياتها غير الشتات، والفوضى والضعف، ولن يستفيد من ذلك غير أعداء الأمة، الذين تربّصوا بها وما زالوا، وإني لأناشد من أرض الرسالة ومهبط الوحي قادة الأمة الإسلامية وشعوبها أن يتصدّوا لدورهم التاريخي، في زمن تقاطعت فيه الطرق وتشابهت في ظاهرها، واختلفت في باطنها، فليكن الوعي سبيلنا - بعد الله - لنختار طريق الوحدة والهدف لا الفوضى). نسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان وعدالة حكامنا وصلاح ولاة أمورنا إنه سميع مجيب.