عاشت المملكة العربية السعودية ساعات من الأسى وأياماً من الحُزن، ودّعت خلالها رجلاً من أعظم رجالاتها، وإنساناً من خيرة أبنائها. لقد كان رحيل الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله وغفر له- حدثاً مُفزِعاً، هزّ المملكة قيادةً وشعباً؛ بل ترك ثغرة في العالم بأسره ومع كلّ ما صدر من شهادات الخير ووثائق الفضل، فقد شهد لسلطان القاصي والداني، وأثنى عليه من يعرفه حقّ المعرفة من إخوته وأهل بيته، تماماً مثل ما أثنى عليه من لا يعرف إلا اسمه وابتسامته لكنه يعرف قلبه الرحيم، ويده الطّولَى، ومسابقته إلى الخير التي منحها من عرف الأمير وتعامل معه، إلا أن ثمة ألسنة لم تُستنطق، وأقلاماً لم تتحدث بلغة اللسان، مع أنها بنبضات قلوبها صَرخت كمداً وحزناً على سلطان! ولو استُنطق أولئك لكانت أصواتهم وحروفهم آهات من الألم والحزن على فقيد الوطن فقيد الأمة فقيد الضعفاء. أولئك هم يتامى وأرامل ومعاقون، مرضى ومصابون ومساكين لم يُسعفهم الحال، ولا ساعدهم المقال، على التعبير عن عميق جروحهم وألم فقدهم لإنسان كان هو العائل بعد الله لهم. فهذا يتيم الأبوين كان يعيش في كنف سلطان، وتلك أرملة محتاجة كانت تهنأ بما أجرى الله لها من الخير على يديْ سلطان، وذاك معاقٌ عجز عن الحركة وعجز ذووه عن رعايته فوجد بعد فضل الله تعالى - رعاية سلطان، وأولئك مرضى أثقلتهم تكاليف يَنُوء بحملها الأقوياء الأصحّاء كان علاجهم على نفقة سلطان. نعم.. أولئك شهداء الله في أرضه، فهم من يعرف سلطان، وهم خير من يتحدّث عن فضل سلطان، وهم من سيفتقد سلطان، ولا يُنبِّؤك مثلُ خبير. سلطان كان أمة في رجل، وأنهار عطاء من الخير لا تنقطع. كان يعطي بيمينه ما لا تدرك وتعرف شماله؛ ولكن ما ظهر لجنة خيرية خاصة لإغاثة المسلمين داخل البلاد وخارجها، ومدينة للخدمات الإنسانية، ومشروعات قائمة للمعاقين والمرضى والفقراء والمساكين، هذا شيءٌ من مما ادّخره سلطان رحمه الله لنفسه، وسيلقى جزاءه كاملاً موفوراً عند ربه عز وجل إن شاء الله. إن وفاة أمير عظيم، ورجل دولة محنك بقدر الأمير سلطان رحمه الله، في دولة تعصف الفتن والأحداث المضطربة بمن حولها، وفي وقت يتربّص فيه الأعداء ليجدوا منفذًا إلى أمنها ورخائها، كان كفيلاً بأن يهزّ كيانها ويفرّق كلمتها، لولا عصمة الله تعالى لها في أساسها أولاً حين قامت على التوحيد والشريعة، وثانياً في التحام قادتها ومواطنيها. منظرٌ مَهيب يؤكد على اللُّحمة القوية، والعلاقة المتينة بين أفراد الأسرة المالكة الكريمة، حين ترى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يتجشم المخاطر، ويضحّي بصحّته في سبيل أن يستقبل جثمان الفقيد الأمير سلطان رحمه الله بنفسه، ويتقدم المصلين عليه، وكأنه تعبير صامت عن حبٍّ كامن بين الأخ وأخيه، والملك ووليّ عهده، حُبٌّ لا تهزّه الأحداث ولا تؤثر فيه شائعات الأعداء، وحين ترى صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز يُصرّان على حمل نعش الفقيد على الأكتاف، ضاربين مثلاً في الحبّ الأخوي، والسخاء العاطفي. تلك المشاهد ما هي إلا إشارات على عمق اللُّحمة الوطنية، وصدق المودة والمحبة، بين أركان القيادة، وأفراد الشعب، وهي في الوقت ذاته رسائل صريحة إلى البُغاة والمفسدين أَنْ أَقصِروا، فالساعي بالإفساد بين الأخ وأخيه شيطان خاسر. رحم الله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وعظم الله أجر والدنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله، وأحسن عزاء قيادتنا الرشيدة في هذا المصاب الأليم، وتغمّد الفقيد برحمةٍ منه ورضوان، وأسكنه فسيح الجنان، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة