مع إطلالة شهر رمضان الكريم في العام المنصرم وتحديدا في صباح يوم الأحد الخامس عشر من شهر أغسطس عام 2010 انتقل إلى رحمة الله تعالى معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي وقد أحدث رحيله دويّا مثلما يحدثه رحيل العظماء والأساطير في التاريخ ولا شك أننا في المملكة العربية السعودية نالنا أكثر مما نال غيرنا من الألم والأسى لرحيل شخصية بحجم غازي القصيبي، قد أتفهم أن من تعامل مع الفقيد من قريب أو بعيد ولمس مدى الإنسانية التي حملها بين جنبيه قد آلمه رحيله ولكن أن يشعر بذات الألم من لم يسبق له مقابلته كحال كاتب هذه السطور وحال الكثيرين فتلك والله لا تحدث إلى عندما يكون الراحل أسطورة بمعنى الكلمة، ها هو عام يمضي على رحيله ولم تزل صورته وصوته وسطوره معنا لم تفارقنا ولن تفارقنا، تقول الأستاذة مشيرة عمران - سكرتيرة الدكتور غازي القصيبي في سفارة خادم الحرمين الشريفين في لندن - بأنها لن تزيد على وصف الدكتور غازي بأكثر من كلمة (إنسان) كونها كلمة جامعة وشاملة لا يقدرها سوى الإنسان الحقيقي مستشهدة بمثال بسيط يحدث يوميا في السفارة حيث كان الدكتور غازي يتعامل مع جميع موظفي السفارة من دخوله لباب السفارة حتى منصب (وزير مفوض) بأسلوب واحد ويناديهم بطريقة واحدة لا تختلف حسب شخصية المنادى بل كانت كلمة واحدة هي: (الأخ الزميل) أو (الأخت الزميلة) فالجميع كانوا متساوين لديه. وفي لقاء تلفزيوني أجرته الإعلامية نيكول تنوري مع الدكتور غازي القصيبي وكان الحديث عن حب الدكتور لممارسة الطبخ لو كان يجد الوقت الكافي فسألته نيكول: ألا تشعر بأن الرجل العربي عندما يقول بأنه يحب الطبخ تقلل من رجولته؟! فأجاب رحمه الله إجابة رائعة لا تخلو من أسلوب السخرية التي كثيرا ما أحسن توظيفها في رواياته ومقالاته حيث قال: (الرجل العربي عنده 60 مشكلة فهو يعتقد بأن رجولته مرتبطة بشواربه أو عصاه أو هل الناس يخافون منه أو لا يخافوا منه أو أن الرجولة مرتبطة كونه لا يتحدث مع أولاده أو اللي يرّش عليه ماء يرش عليه دم !! هذه عقد أكل عليها الدهر وشرب، مقياس الرجولة هو الشعور بالمسؤولية، هل الإنسان المُهمل لأولاده وزوجته وعمله وعائلته هل هذا أستطيع أن أسميه (رجلا)؟! بقدر ما يكون الرجل عنده التزام نحو عمله ونحو أهله وأصدقائه ونحو الإنسانية بقدر ما يصبح رجلا، معيار الرجولة في نظري مرتبط بالالتزام والمسؤولية). في الحقيقة أن كلام الفقيد ليس بحاجة للتعليق بقدر الحاجة للتطبيق فكلامه ممتع سهل وممتنع وبيانه لؤلؤ وألفاظه درر، ومما شدني في ذلك الحوار عندما سألته نيكول عن اتهامه بمهاجمته للعادات والتقاليد في رواية أبو شلاخ البرمائي، أجاب الدكتور غازي قائلا: (كثير من عاداتنا وتقاليدنا أنا مستعد أن أموت في سبيل الدفاع عنها كالتقاليد الأسرية وتقاليد الولاء والتقاليد الدينية ونصرة الجار، منظومة تقاليد جيدة جدا ويجب أن ندافع عنها وهي التي في النهاية تشكل هوّيتنا، بالإضافة إلى ذلك هناك تقاليد وعادات تسلّلت إلينا في غفلة من الزمن تسلّلت إلينا برغم ما يقوله لنا الإسلام وتسلّلت إلينا برغم التقاليد الأصيلة النقية، هذه يجب أن نحاربها كتصنيف الناس على أساس اجتماعي أو قبلي). والحقيقة أن ما كان الكثيرون يخشون التصريح به كان غازي رحمه الله يجهر به وينتقده ولا يخشى ردة فعل أي أحد لأنه كان مؤمنا بعدالة القضايا التي كان يدافع عنها. قبل ثلاثة أعوام كتب الدكتور غازي القصيبي رحمه الله مقالا تحت عنوان (رمضان.. وداعا) وكان اللافت للانتباه أن توقيت نشر المقال في أوآخر شهر شعبان وقبل حلول شهر رمضان! حيث أظهر الدكتور شوقه لرمضان السنوات الخوالي الذي لم يكن أولمبياد للمأكولات وساحة تنافسية للمسابقات والمسلسلات واختتم مقاله بأن مشتاق جدا لرمضان القديم. واليوم وبعد رحيل الدكتور ومرور أول رمضان في غيابه لن أقول (غازي... وداعا) بل إلى اللقاء تحت رحمة ربنا الرحيم الرحمن في جنات النعيم، رحم الله غازي القصيبي صاحب اليد النظيفة والضمير الحي وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.